حوار : قلم رصاص |
قريباً من محترفها وسط جرمانا، تدور معارك في الأرياف المجاورة وتسقط القذائف هنا وهناك، لا خوف يهددها، تتنقل بين مرسمها – بيتها وبين غاليري كامل وسط العاصمة دمشق، بإصرار ومجهود كبير تشتغل الفنانة التشكيلية رولا أبو صالح (1982ـ خريجة مركز أدهم إسماعيل 2007) على فكرة الذهول وإعادة اكتشاف اللحظة في عالم الأطفال، لوحاتها الجديدة التي توحدها فكرة البحث عن الأسئلة الكبيرة في لحظات الطفولة تعيدنا للحظات الولادة الأولى لديها، تقول رولا: “كل ما أتذكره منذ الطفولة كان أقلام التلوين والطباشير والمساحات الخالية، تلك التفاصيل التي شكلت كل هواجسي، لم أكن أوفر مساحة خالية دون محاولة رسم شيء ما، ربما عالق في ذاكرتي الماضية… ولطالما تمنيت لو يستبدلوا بعض الحصص الدراسية، بحصص الرسم والأشغال! أو أن يتركوا لي حرية اختيار ما أرغب بتعلُّمه..”.
نحن الأساطير
تجاوزت الفنانة الشابة محيطها الاجتماعي لتدخل نحو ذاتها أكثر، باحثة عن لغة اللون في معنى الخيال اللامنتهي، لم تتأثر بأشخاص بشكل مباشر، ولكنها كانت مشغولة في التاريخ وسراديبه وألغازه: “لم يكن هنالك فنانين في عائلتي أو أقاربي أو حتى الجيران، دائماً كنت أتمنى أن أقابل فناناً وأنا صغيرة، لأحاول تلمّس شيء من الفن عن قرب وأتعلم بعض التقنيات، فلم أجد، بالتالي لم أتأثر بأحد..!” تشير رولا في حديثها لـ”قلم رصاص”، ولكن، كان لرسومات كتب المدرسة “وقعها المحبّبّ لديها: “خصوصاً رسومات الفنان ممتاز البحرة، كانت متعتي الوحيدة في الطفولة، ثم بعد ذلك جاءت الأساطير البابلية، التي فتحت رسوماتها أبواباً واسعة لمخيلتي. أتذكر أنني كلما كنت أقرأ، أذهب في تخيل الشخصيات، كيف عاشت في تلك الأزمنة، كنت أشعر كما لو أنها حقيقية ونحن الأساطير” تضيف الفنانة.
التقنية اللونية
تقنياً، تنمي تجربة رولا أبو صالح إلى المدرسة الواقعية، لكن هنا “لاتبقى واقعية” حسب تعبيرها لأنها تعمل على تداعيات مشهدية بعد اللحظات الأولى لولادة اللوحة: “أبدأ العمل بفكرة ما أو متأثرة بمشهد رأيته أو مطبوع بذاكرتي من السابق، وحين يصل العمل لبر الأمان وأقترب من الوصول للحقيقة أجد اللوحة تأخد مساراً آخر وتخرج من إطار الواقعية وتذهب باتجاه آخر… إنها تكمل طريقها لوحدها، أشعر أنني أفقد السيطرة العقلانية، وهكذا أبدأ بالتلوين بفطرية حتى تعجبني، عندها أشعر أنها انتهت، مستخدمة الألوان الزيتية والأكريليك والمواد المختلفة على قماش، حسب ما تتطلبه الفكرة ونضوجها أمامي..”.
إنها تغرق في شعرية المحاكاة والتماهي الجوهري مع اللون، تاركة للمتلقي حرية التواصل الروحي مع اللوحة، إذ لا يمكن التوقف عند لوحة بمفردها دون النظر إليها كحلقة من مشروع متكامل يكشف عن نفسه مع كل بناء جمالي تقترحه الفنانة التي تنتصر لفرشاة ألوانها محاولة إعادة انتاج الحياة بوجوه أطفال يقولون الحياة على طريقتهم الخاصة.
رؤية فلسفية
تسعى رولا للبحث عن مداخل فلسفية لرؤيتها الفنية حول “مشروعها الجديد” حيث تنطلق من اعتقاد كوني عن أسرار الوجود ودوافع البقاء والخلود، تقول:
“الإنسان إذ ينقب في نفسه يستطيع العثور على مركز الكون، فكيف إذا كانت هذه النفس صغيرة وفطرية صادقة وعفوية وحقيقية ولم تتأثر بالعادات والتقاليد..!
تلفت انتباهي بعض حالات القلق والتساؤل عند الأطفال ومن خلالها أستطيع أن أجد أجوبة لأسألتي عن الغاية من وجود الانسان والكون والخلق.. هذا أبسط تعريف قد أقدم فيه فكرة مشروعي حول الأطفال”.
حالياً تقضي الفنانة رولا معظم وقتها في ورشة فنية مشتركة ضمن غاليري كامل، حيث تعتبرها من “أجمل تجارب حياتها” لمَ وجدته هناك من تقدير ورعاية وتشجيع من قبل القائمين على مشروع الورشة: “لقد أتاحت لي هذه الورشة العمل مع فنانين آخرين والاستفادة من تجارب وخبرات مختلفة، إضافة إلى الحوارات الثقافية اليومية التي تدور بيني وبينهم.”
الثقافة أولاً
من جهة أخرى تحاول في غاليري كامل “الاشتغال على ما هو ثقافي على حساب المردود المادي” حسب تعبير رولا، فهي تقدم للفنانين المشاركين المكان والأدوات والأجواء المناسبة. وهذا من الدوافع التي حفزت هذه الفنانة على الإنتاج والاستمرارية: “حالياً أعمل على مشروعي هناك، ومازال لدي المزيد لأتعلمه وأجربه، هنا اكتشفت كيف تتطور تجربتي يوماً بعد الآخر، وأشعر بأنني أكتشف فيها الكثير”.
“أنا راضية عن نفسي وعن المستوى الذي أقدمه، إنه تعبير ذاتي في أعمالي” تقول رولا أبو صالح، التي تسعى لتوصيل “ما يدور بداخلها عبر اللوحة”. هنالك الكثير من الأسئلة والألغاز الغامضة التي مازالت تدور في بالها منذ ولدت، لم تجد لها إجابات مقنعة، “لعل الدهشة على وجوه أطفالها، تعبّر عن دهشة ما يدور في العالم و تعبير خاص عن عاجزهم أحياناً لإيجاد تفسير حول الظواهر الغامضة” تضيف.
الإبهار هو سر الأحجام الكبيرة للوحات الجديدة التي أنجزتها الفنانة الشابة، وتقوم آلية القياس في حساباتها على الفكرة، تقول: “ليس هنالك قياس معين أعتمده ولكن غالباً ما تكون أحجام كبيرة فهذه الأحجام تبهرني وأستطيع من خلالها التعبير عن الفكرة بحريّة فتنضج على راحتها بدون قيود المساحة الصغيرة.
لا أعتمد على قواعد في لوحتي فهي تكون فكرة في البداية وتتبلور في مخيلتي وأبدأ بتنفيذها، فهي تبدأ بتخطيط ولكنها سرعان ما تخرج عن الواقع وتنتهي بدون تخطيط مسبق وهنا تخدمني المساحات الكبيرة لأفعل كل ما أشاء”.
متى يمكننا القول أن فكرة مشروع ما انتهت بعد إنجاز معرض حول الفكرة مثلاً، يعني ألا يخشى الفنان من مطاردة أفكار قريبة لمشروعه الراهن بعد تقديمه مقترحه الفني كمعرض؟ لاتعتقد رولا هنا أن فكرة أي مشروع قد تتوقف وتنتهي بل ستكون “بداية تمهيدية للفكرة الكبرى وتمتد إلى باقي الأعمال. غالباً ما تطاردني الأفكار التي أنغمس بها بعد القراءة لأرسمها فهي امتداد لما بدأت به وكل ذلك متواصل مع ما قبله وبعده إلى ما لا نهاية”.
طاقة القراءة
في ضفة مقابلة للرسم والخيال تنشغل الفنانة في قراءات مختلفة لمجموعة مختارة من الكتب، ليس هنالك نوع محدد، فهي تقرأ عدة كتب في وقت واحد إنها “قراءة بحثية” كما تسميها، إذ قد تبدأ بكتاب وتشدها كلمة أو جملة فتذهب نحو البحث عن ما ترمز إليه في المصادر وهكذا، تقول: “تجدني أقرأ أكثر من كتاب في وقت واحد، فالقراءة تشحن طاقتي ومخيلتي وتعطيني الدافع الكبير لأنسج لوحتي كما أتخيلها، تشدني الروايات والأساطير والشعر والمسرح وكتب الفيزياء الحصصية والخيال العلمي بالإضافة إلى الكتب الفنية العالمية بشكل عام والفن السوري بشكل خاص فمن الضروري أن يعرف كل فنان من هم رواد الفن في بلده وماذا قدموا للفن وماذا أضافوا إليه؟”.