الرئيسية » رصاص حي » كيف يكون الإبداع الأدبي متميزاً ؟

كيف يكون الإبداع الأدبي متميزاً ؟

ولد عبد الله عبد اللطيف  |  

يقال إن العلميين البارعين، كان لهم في معظم الأحيان معلمون جيدون، والذين لم يكن لهم مثل هؤلاء قرأوا كتباً جيدة. ونفس الشيء ينطبق على معظم الكتاب الكبار.

من هذا المنطلق أريد أن أتطرق إلى موضوع الكتابة الذي يشغل العديد من الكتاب الناشئين أو الذين يريدون صقل مواهبهم وشحذ إمكانياتهم الأدبية. فأي عمل أدبي جاد أو ممارسة كتابية راقية لابد لها من ضوابط وآليات تتحكم في مسار العمل الإبداعي لتبلغ بالنص الأدبي مبتغاه النهائي وهو الوصول إلى القراء وتشكيل صورة مرضية عما يريد قوله. فالكتابة جسر من الكلمات تعبر خلاله خواطر الكاتب إلى ذهن القارئ، وللتأكد من متانة الجسر لابد وأن تكون هناك خلفية لغوية وذائقة أدبية لهذا الكاتب.

سيكون سؤال كل واحد منا عند بداية مشواره، كيف أصبح كاتباً، ما هي الآليات وما هي التكنيكات المتبعة؟ أنا سأقول لك كيف … ستكون كاتباً عندما تبدأ بالكتابة. هه. وماذا تتوقعون أن أسميه غير هذا؟ ولكن السؤال الذي يجب أن يطرح هو كيف أصبح كاتباً جيداً. هذا هو الأمر الذي يهمنا الآن. هناك عملية الكتابة تأتي أولاً ثم تأتيها النوعية ثانياً وهذا الأخير لا يتحقق إلا بشروط. ومن بين هذه الشروط أن تتوفر لك الإرادة لعمل جاد سيأخذ من وقتك الكثير، يعني أن تكون ملتزماً. توسيع دائرة معرفتك عن طريق المطالعة المتنوعة والمستمرة لكل المجالات. فلكتابة قصة قصيرة أو رواية عليك أن تقرأ هذين النوعين بكثرة وكل ما يتعلق بهما من نقد ومقالات. حتى تتمكن من الأساليب والتكنيكات المتبعة في السرد والكتابة عموماً. ولكن ما يهمني الآن هو أن هذه التقنيات المستعملة في تأليف القصص والروايات من طرف معظم كتابنا العرب مستوردة من الغرب. وما أنشده هنا في هذا المقال هو إيجاد سبل تجعل من كتابنا يتفردون بأساليبهم الخاصة ويبتكرون أجناساً أدبية جديرة بالذكر على مر العصور. ستقولون كيف ومن تظن نفسك لكي تملي علينا أفكارك حول العالمية والطموح والرقي… إلخ وسأقول لكم أننا ألفنا وتآلفنا في عالمنا العربي مع الأفكار السلبية والانهزامية التي أصبحت كالخلايا اللمفاوية في أجسامنا ضد كل ما هو إبداع. والفكرة تبدأ ببساطة هكذا وعفوية، فقط تحتاج إرادة وهدف واضح ثم عمل مستمر. 

لفتة بسيطة إلى تراثنا العربي ستكون لحظة تحول مهمة في الأدب العربي الحديث. أعمال اكتشفها المستشرقون في القرن الماضي وترجمت إلى لغتهم أولا ثم إلى العربية. وإني أتكلم عن كتاب ألف ليلة وليلة الذائع الصيت ثم كتاب كليلة ودمنة. تليه مقامات كل من بديع الزمان الهمذاني والحريري. ثم أخيراً الموشحات الأندلسية. لماذا أشرت إلى هذه الاعمال بالضبط؟ لماذا لم أشر إلى البخلاء والبيان والتبيان للجاحظ أو الادب الصغير والكبير لابن المقفع لماذا لم أشر إلى الشعر العباسي والبغدادي، لماذا تجاهلت قروناً من الإبداع؟ كل ذلك له سببان الأول هو أنه لا يسعني المقام لذكر كل الأعمال في تراثنا الزاخر بالفنون وثانياً إن هذه الأعمال التي ذكرتها والتي أريد تسليط الضوء عليها تمثل قفزة نوعية وابتكاراً في حد ذاتها. الأسلوب الذي كتبت به ألف ليلة وليلة جعل منها تحفة الزمان ولازالت مرجعاً للعديد من الأدباء الكبار. وخير مثال على ذلك توظيف تقنية العلبة الصينية كما ذكرها ماريو باغاس يوسا في كتابه ” رسائل إلى روائي شاب ” في رواية بؤس لستيفن كينغ والتي نالت شهرة واسعة وحولت إلى عمل سينمائي ناجح. واستعمل فيها الكاتب هذه التقنية ووظفها بمهارة عالية، إذ يعتمد هذا الأسلوب على توليد قصص ثانوية من القصة الرئيسية كما هو الحال مع شهرزاد وذلك لإضفاء السحر والغموض والتعقيد. إذ تكون نجاة البطل في رواية بؤس منوطة بالقصة التي يقوم بكتابتها لتلك المرأة التي تريد قتله. وهنا نرى أن ستيفن كينغ استفاد من هذه التقنية بشكل كبير وأحدث ذلك قفزة نوعية من خلال قفزات الراوي في الزمان والمكان وجعل مصير بطله كمصير شهرزاد في ألف ليلة وليلة فيعمد كلاهما إلى إطالة القصة لتفادي الموت.

المتمعن في القصص الخرافية التي قام جان دي لافونتين بكتابتها على ألسن الحيوانات يرى أن هنالك شبها كبيراً بينها وبين القصص التي وردت في كتاب كليلة ودمنة ورغم أن هذا الكتاب مترجم من اللغة الهندية ثم إلى الفارسية وأخيراً إلى العربية إلا أنه يعد من التراث العربي الأصيل وقد أحدث أثراً بالغاً في تنشئة الفرد العربي منذ ظهوره. 

ونلمس نوعاً من المحاكاة أيضاً لدى لافونتين لتقليد هذا العمل وإخراج نسخة فرنسية تعد من أفضل ما انتجه الأدب الفرنسي على مر العصور إلى يومنا الحاضر.

وقد شكل كتاب كليلة ودمنة عند ظهوره قفزة أدبية عملاقة في مجال الرمزية الأدبية وتمكن من استنطاق الحيوانات عن طريق إبراز مخيلة لا نظير لها وخوض تجربة لا نظير لها قبل ذلك الزمن. هناك تجربة أدبية ظهرت في القرن الرابع للميلاد وكان لها ذيوع صوت وذوق خاص لما احتوته من أساليب أدبية مبتكرة، مزجت بين النثر والشعر كما لم يحدث في أي عمل من قبل. إنها مقامات العبقري والأديب الفذ بديع الزمان الهمذاني. فقد مكنته سرعة خاطره وقوة بديهته ونفاذ بصيرته إلى ابتكار لون أدبي جذاب، اتبع فيه أسلوباً سلساً لمجموعة من القصص المتفاوتة في الحجم تناولت موضوع الكدية (الاستعطاء) والاحتيال. بطلها رجل وهمي يدعى أبو الفتح الإسكندري ويروي مغامرات هذه الشخصية رجل وهمي آخر أيضاً يدعى عيسى ابن هشام. والقارئ لهذه المقامات يدرك فوراً مدى متانة البنية اللغوية وشدة تناسقها وخاصة بتواجد الشعر. فلا يشعر القارئ بأنه ينتقل من الشعر إلى نثر أو من النثر إلى الشعر. إذ إنه يذيب الشعر والشعر يذبه ويدعو القول والسحر يجيبه وهذا ابلغ ما يمكن أن يقال عن مبتكر هذه المقامات. ولكننا للأسف لم نرى أي عمل جدي يطرح هذا النوع الادبي بعين الاعتبار، بالرغم من قوة لغته وأسلوبه. ألا يمكننا أن نطور أساليبنا الأدبية أو على الأقل نكسوها بطابع عربي أصيل. لطالما أن المادة متوفرة فلماذا لا نرى عملاً يرتكز في فكرته على موضوع الكدية والاحتيال كما فعل الحريري بعد بديع الزمان بقرن.

ولدينا أمثلة ساطعة عن أدباء كبار استمدوا من تراثهم وقودا لا ينضب معينه. نرى ذلك جليا في رواية دان براون “الجحيم” وهي رواية ترتكز في أساسها على عمل أدبي من القرن الرابع عشر لدانتي ألييغري ولها نفس العنوان أيضاً ” الجحيم” وهناك من النقاد من يقول إن هذا الأخير استلهم عمله من ” رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري.

وهناك من الأمثلة العديدة ما لا يمكنه حصره. فلننتقل الآن إلى الموشحات التي ظهرت في الأندلس وهي من روائع التراث الإسلامي وتعد تحفا فنية نادرة لظهورها متأخرة نوعاً ما قبل الشعر العادي ولتجاهل النقاد لها في ذلك الوقت باعتبارها لغة عامية آنذاك. والجدير بالذكر أنها آية في قمة الإبداع. فقد قام بعض الأندلسيون كلسان الدين ابن الخطيب وأمثاله باستحداث شعر يتشح بطابع غنائي ترق له الآذان وتخشع له الأبصار. في أسلوب ماهر وعذب. وقد عاد هذا الفن للظهور في القرن الماضي من خلال ما قدمه بعض المطربين كفيروز مثلا وهناك أيضا غادة شيبر …. إلخ ولكن ذلك لم يتعدى فقط تكرار ما قيل منذ عصر الاندلس مع إدخال بعض الآلات الموسيقية الجديدة. ولا نرى له الآن تقريباً أي أثر أو عناية به من طرف النقاد والادباء عامة. فأي يد وأي قلم قد ينتشل هذا الفن من وهدته فسيؤدي بصاحبه إلى اكتشاف أبعاد وجماليات فنية قد تؤدي به إلى ابتكار فريد أو تطوير لأسلوب شعري منفرد، يؤدي به إلى دخول عالم كبار الأدباء.

إن الإبداع من سمة البشر جميعاً وليس حكراً على أية فئة وهذا التطور الذي نشهده في الغرب إنما هو تراكم كم معرفي مر بأطوار خلال آلاف من السنين ومن الغباء أن ننسبها إلى فئة معينة أو حضارة ما. الطابع البشري يتميز بالإبداع ولطالما تفرد بشعور مرهف وحب للجمال. الجمال الذي يجعل من أي عمل قابلاً للعبور عبر أجيال وأجيال. ولكن البشر أحياناً يمرون بفترات مظلمة ويتميز بعضنا عن الآخر بما يوليه من عناية للعقل والجمال، فترى الغرب الآن سباقين إلى كل موروث حضاري ولا تراهم يتركون كبيرة ولا صغيرة إلا واستفادوا منها. أما نحن فنبقى منكمشين على أنفسنا خائفين من التقدم خطوة إلى الامام، وغافلين عن عما سبقنا من كم معرفي نستفيد منه لننطلق من جديد في تيار التقدم والإبداع الأدبي. الذي هو ملاذ الروح والعقل ليسبح في فضاءات الخيال أينما وجد وأينما كان.

كاتب جزائري  | خاص مجلة قلم رصاص 

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

هل زعزعت وسائل التواصل مكانة الكتاب المقروء أم عززتها؟

صارت التكنولوجيا الجديدة ووسائل التواصل، تيك توك، يوتيوب، فيس بوك وغيرها مصدرا رئيسيا للمعلومات والأخبار …