هادرة كنهر جارف في موسم فيضان تندفع من باب المدرسة حقائب مدرسية زرقاء رُسم عليها شعار اليونسيف بالأبيض.. موعد انصراف الدوام الثاني..
بعضهم في لباس مدرسي وبعضهم فيما تيسّر، يتراوحون من ارتفاع اليد لحَدّ الخصر وأعلى قليلاً. أفرح بالنظر إلى ضفائرهن التي جدلتها أمهاتهن بكل ما أتيح لأصابعهن من فنّ.
سميكة ورفيعة، شعيرات خفيفة رُبطت بمطاطة ملونة، بكلة تزحل عن الغرّة، ذيل حصان يتأرجح مع كل قفزة، إشارب أبيض يخفي الرأس الصغير ويغطي العينين فتشدّه إلى الخلف ليكشف عن غرة شقراء، تستدرك فتعيد سحبه ليغطي حاجبيها وتسير.. ينحني ظهرها الطري تحت الحقيبة المحمّلة بكل واجبات الدنيا.
خمسة صبيان أشركوا بنتاً وحيدة في لعبتهم الصبيانية التي تشبه التكتيك العسكري، يتشاورون قرب سيارة متوقفة، يضعون خطة حربية ربما.
في طفولتي كنا نسمي خطوط الطبشور المرسومة على الأرض “مملكة”، جمعها “ممالك”.. ما تزال تأخذني هذه الكلمة كلما رأيت الخطوط البيض على الإسفلت بعيداً إلى قاع البحيرة حيث ترقد البيوت المغمورة مع بقايا أنفاق تقود من قلعة جعبر إلى برج المراقبة على الضفة الأخرى.. لم يتسنى لأحد اكتشافها..
فقد غمرت بالماء..
حتى الآن أندم أنني لم أتخصص بالآثار والمتاحف.. ليتني فعلت حينها، ولربما، سارت حياتي في اتجاه آخر.
لا أعرف ماذا يسمون خطوط الطبشور الأبيض هذه في دمشق، أعتقد “حيز”، ربما أكون مخطئة… ولا رغبة لي بالتأكد.. فالمملكة تناسبني.
أقفز فتستغرب الفتيات.
افتقدت خفّة الطفولة.. ها قد دست على خط.. وآخر لكنني ما أزال أتقن القفز..
قلقاً يمر قربي وهو يتحدث بهاتفه:
– من شوي نزلت وحدة، يمكن في تنين انصابوا، المهم طمّني وصلت البضاعة؟ لهلأ الطريق مسكر؟
يتجاوزني فلا أسمع تتمة الحديث.
في “العقيبة” الذي ينحني يميناً باتجاه “الملك فيصل”، أراه، شعره لم يعد كُلَّ خصلة في اتجاه كما رأيته أول مرة، يبدو أكثر ترتيباً، بنطال أزرق وحقيبة حمراء تهتز على ظهر القميص السماوي، أتبع خطواته وعينيّ مثبتتان إلى كعبيه الأسودين المشققين في الشحاط البلاستيكي.
تلفتني أصابع الأقدام، أشعرها مضحكة، أنيقة أو طيّبة.. أحياناً متعبة أو حتى كادحة.. صفات بشرية كاملة أحسها مخفية في الأصابع الصغيرة المطلة من فتحة الشحاط.
في تلك المرة الأولى، ظننته طالب مدرسة وأنا أراه آتياً تجاهي من بعيد، ومع اقترابه كشفته خطوط العمر المحفورة عميقاً في الجبين والخدين، بعدها لم أعد أطرح تساؤلات.
أمام الدكان الصغيرة المختصة بتصليح الأعواد في الشارع المفضي إلى النوفرة أراهم مجتمعين، يعزف أغنية لعبد الوهاب، صديقه يصب الشاي في الكؤوس الثلاث، والآخر يردد مغمضاً عينيه باستمتاع:
– الله.. الله..
أتجاوزهم وأنا أقرأ على الواجهة ورقة مكتوب عليها بخط كبير جداً: يمنع التدخين داخل المحل..
أسير وأفكر:
– ليش الصين لهلأ ما اخترعت شمسيات بتحمي من الهاون.. والله كانوا عملوا فيها بزنس أللاوي..
ولو صحّ ما كنت أفكر به لاشتريت واحدة بيضاء ذات دوائر يتغير لونها عند هطول المطر أو ملمس البارود.
يطير خفاش صغير أمامي مرتطماً بجانبي الشارع الضيق المرصوف بالحجارة السوداء، صغير جداً، أصغر من العصفور وكأنه فراشة ليلية كبيرة الحجم. خفاش طفل، ربما لا يتقن الطيران في الظلام بعد، أو أن تلك الأصوات التي باتت مألوفة لنا تشوش على موجاته السمعية التي درسناها في حصص العلوم.
أقف عند الموقف.. الازدحام شديد، جميع السرافيس ممتلئة فوق طاقتها.. فجأة يتوقف أحدها وفيه صبيتان، على آرمته العلوية تنير: “عين ترما- حزة” باللمبات المشتعلة من داخل البلاستيك الأبيض على سقف السيارة.
يخرج الشوفير رأسه ويبدأ الصراخ:
– جرمانا… جرمانا.. جرمانا..
– أكيد طالع على جرمانا وللا بدك تخطفنا؟
يسأله رجل تعب من الوقوف لم يفقد روح الدعابة التي باتت تميز السوريين، فيجيب الشوفير بابتسامته العريضة:
– لو بدي أخطفكون كنت خطفت بالأول هل صبايا يللي معي..
اصعد مبتسمة. عناقيد العنب الحمراء والخضراء تهتز جيئة وذهاباً، أنظر إلى أنفه وأفكر بالكمال الذي وهبه الله لبروفيل هذا الشوفير، كمال يعجز أمهر جراح تجميل على تصنيعه.
أنزل فوق الجسر.. سحابة سوداء كبيرة تمتد فوق المخيم.. قاتمة، كثيفة وواضحة في ضوء الغروب.. لا سحابة غيرها في هذا اليوم غير المرقّم.
12 أيار 2014
مجلة قلم رصاص الثقافية