الرئيسية » مبراة » “ثغافة” أم “سئافة”؟

“ثغافة” أم “سئافة”؟

يمتاز الرقَّيّون وأقصد هنا أهل محافظة الرّقّة السورية الأصليين بأنهم يلفظون حرف الغين قافاً وحرف القاف غيناً، وخاصة في اللهجة الريفية، وهم بذلك يشابهون شعب السودان الشقيق أو “الشغيغ”، ولعل البعض من أهالي تلك المدينة حاولوا جاهدين تجاوز تلك العلة اللغوية التي تعتبر أيضاً من مآخذ أهل المدينة على أهل الريف في بلدة لا يمكنك فصل ريفييها عن مدنييها لأنها ليست سوى قرية كبيرة تتسع رقعتها كلما تناسل أهلها الذين ينحدرون من عشائر وقبائل تلتقي كلها عند جد واحد.

ولتلك اللهجة أيضاً طرائفها في الدولة ومؤسساتها وخاصة التي تُعنى بالإعلام والثقافة، فعندما أصبحت الرقة قبلة للمثقفين والباحثين والصحفيين خلال السنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة، كان قد تولى إدارة الثقافة في المحافظة مدير ينحدر من أقصى ريف الرقة، لا شأن له بالثقافة وأكاد أجزم أنه لم يقرأ كتاباً طيلة حياته باستثناء كتب الجامعة، إلا أنه وللأمانة كان قد جعل في مكتبه الكبير غرفة نوم متوسطة بسرير وحمام وبعض مستلزمات العمل الضرورية، يُقال أن تلك الغرفة كانت من أجل سهره على تطوير الثقافة وإنعاشها، لذلك اعترض على تسميتها “غرفة نوم الثقافة” والأفضل أن تكون “غرفة سهر الثقافة”.

بعيداً عن كل تلك التسميات وكي لا نسترسل في الحديث ونتوه عن فكرتنا الأساسية وهي أن المدير لم يستطع خلال وجوده لسنوات طويلة في الإدارة أن يتغلب على تلك العلة اللسانية الموروثة، وكان في ذلك حرجاً كبيراً له خاصة عند إلقاء كلمات افتتاح مهرجانات وندوات ومعارض دولية كانت تنقلها عشرات القنوات والإذاعات.

وبعد أن فشلت كل الطرق لاستدراك تلك المشكلة ما كان من اللجنة المُنظمة لأحد المهرجانات والتي كانت تكتب الكلمات والتصريحات للمدير سوى أن تكتب له خطاباً تقلب فيه حرف الغين قافاً والقاف غيناً، وهذا يضمن أن قراءته للكلمة ستكون صحيحة، وبالفعل نجحت تلك الطريقة.

واستمرت الحال على ما هي عليه حتى أصبح المدير مُلحقاً ثقافياً في سفارة بلاده في إحدى الدول “الصديغة” على حد قوله، وهذا ما فرض عليه العمل وحده دون لجان أو هيئات على ابتكار أسلوب جديد يجنبه حرف القاف والغين نهائياً فأصبح يقول عن الحقيقة: “الحئيئة”، وعن الورقة “ورئة”، وعن الرقة “الرأة”. عاد “الرفيغ” المدير إلى بلده إلا أن مدينته “الرأة” كانت قد استبيحت ومبنى ثقافتها الضخم أصبح أثراً بعد عين، فاستقر في دمشق، مديراً لإحدى الهيئات في وزارة “السئافة”، وقد تعلم شرب المتة وما زال كعادته يسهر على الثقافة، إلا أن الأخيرة لم تعد كما كانت في “الرغة”، “ثغافة”؛ بل أضحت “سئافة”، حالها حال “الرغة” التي أضحت في العاصمة “رأة”.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فراس م حسن

فراس م حسن
قـارئ، مستمع، مشاهد، وكـاتب في أوقـات الفراغ.

شاهد أيضاً

لا أريد أن أكون وقحاً !

كان أحد الأصدقاء يقول لي كلما التقينا وتحدثنا في الشأن العام قبل وبعد أن صار …