الرئيسية » رصاص عشوائي » “مع السلامة يا وطن”
الطفلة "وطن" في رحلة اللجوء..

“مع السلامة يا وطن”

صالح نفسك  |

يوميات مواطن خرج من مدينة الرقّة السورية مؤخراً:

الغربة داخل الوطن دائماً تكون أشد وأصعب بكثير من الغربة خارجه، كثر منكم يعرفون مقصدي وكثيرون منكم عاشوا غربتهم الخاصة، حتى أننا وصلنا إلى درجة الغربة داخل بيوتنا، لم يعد أمامنا خيار آخر سوى الهروب إلى الأمام وطبعاً الخيار الوحيد المتاح هو السير بطريق التهريب وعبر هذه الطريق خرجت وطن.

وطن طفلتي الصغيرة التي لم يبقِ لها من وطنها سوى اسمها.

كان ذلك في الليلة ما قبل الأخيرة من شهر رمضان الفائت كان الصيف في عزه والأيام طويلة والحرارة مرتفعة جداً، وبعد بحث طويل ومقابلات واتصالات فاشلة حصلنا على رقم مهرب وتم الاتفاق معه، وصعوبة الأمر تكمن في أنه يجب أن يُحاط الأمر بالسرية التامة لأن أي خطأ يمكن أن يكون مهلكاً لنا جميعاً.
المهربون عبارة عن شبكة من الفساد والنصب والاحتيال لكن لا يوجد خيار غيرهم. وجدوا فرصة لمص دماء الشعب. وكلما اشتد الحصار ازداد تعطشهم إلى مص دماء الناس فتجدهم يزيدون تسعيرة الخروج من الجنة يوماً إثر يوم.
أبلغنا الدائرة الضيقة من العائلة بالموعد كنا قبل ذلك بعنا كل ما نملك تقريباً،  ليست بالاشياء الثمينة لكن في حالتنا كان كل شيء ينفع. بعنا البراد والغسالة وغرفة النوم وبعض الأدوات المنزليه الأخرى ووزعت “أم وطن” ملابسنا وأدوات المطبخ وحتى ألعاب وطن على الجيران.
كان المبلغ الذي دفعناه هو (٧٥) ألف ليرة عن كل شخص، أبلغنا المهرب بساعة الصفر كانت الساعة الرابعة صباحاً، أعدت لنا أم وطن العشاء الأخير أو السحور الأخير إلا أن أحداً منا لم يأكل حينها.
كانت لغة الدموع هي السائد ة اجتمع الأهل جميعاً للوداع، ولم يكن يشغل أم وطن سوى التوصية بالاعتناء بعصافير الزينة، التي أوكلت مهمة  رعايتهن لأختها الصغرى، وتُعيد عليها كلما سنحت الفرصة تفاصيل إطعام العصافير وتغيير المشربية الخاصة بهن.
أمضت وطن معظم الوقت تجلس على سيارتها الحمراء الصغيرة تودعها وخاصة بعد أن عرفت أن ابن عمها يزن الصغير سيأخذها.  
لم أوصِ أنا بالكثير. كان همي هو حقل الجبس (البطيخ) الذي زرعته ولم أحصده بعد، وكلفت أخي بمتابعة الاهتمام به وعلمته ما يجب عليه فعله بالتفصيل وخاصة لإيفاء ما علي من ديون ع الموسم.
جهزنا الحقائب لم نأخذ معنا الكثير لأن الجميع حذرنا من صعوبة الطريق وصعوبة حمل الأمتعة أخذنا بدل من اللباس لكل شخص وبعض الأشياء الضرورية للطريق، كان أهم ما أصريت على أخذه هو دفتر مذكراتي وهارد الكمبيوتر الذي يحوي أرشيفي بالكامل وآلاف الصور والذكريات.
طالت جمعتنا وانتظارنا للموعد المشؤوم كان يتخللها الكثير من أحاديث الذكريات خاصة عن بيتنا الصغير الذي لم ننهِ بناءه.

تذكرت أم وطن سكننا في غرفتنا الوحيدة، وكيف ركبنا أول حنفية وتذكرت أنا أول طبخة لنا في البيت، وتذكرت حين اشترينا البراد والغسالة ونظرنا إلى صورة وطن داخل الغسالة، وتذكرنا اشتداد القصف حولنا وخاصة معارك الفرقة ١٧ التي كانت لا تبعد حارتنا، وقصف الطيران على بعد أمتار من بيتنا وأشارت أم وطن إلى الشقوق في السقف والجدران وكيف خرجنا نركض إلى بيت الجيران خوفاً من سقوط الجدران علينا.
بحر من الذكريات كنا نغرق فيه حتى سمعنا صوت زمور السيارة ينذرنا باللحظة المنتظرة خرجنا إلى الباب وعادة الدموع لتنفجر.

أكثر من شخص من جيراننا خرج مع سماعه صوت السيارة ليودعنا ودعنا الأهل داخل البيت وخرجنا إلى الشارع خرجت عمتي عويشة وعمتي عدلة من بيوتهن لوداعنا، وخرج جارنا إبراهيم مع دجاجاته التي كانت تلعب وطن معهن، كذلك أم خليل وأبو خليل خرجوا لوداعنا. وخرجت جارتنا أم عبود لتودعنا وتبكي بحرقة وتردد كلمات المديح بنا وبجيرتنا، لم أفعل شيء أنا غير البكاء وكذلك فعلت وطن وأمها.
صعدنا السيارة وكان آخر ما نظرت إليه هي شخصية حنظلة التى رسمتها على باب بيتي. وآخر ما سمعته.
هو صوت عمتي عويشة تبكي وتردد:

مع السلامة يا وطن ….مع السلامة يا وطن

خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

عبد الحميد عبد الله.. الشاعر الذي لا تعرفه المهرجانات

كلنا نعرف أن الإبداع حالة فردية، لذلك ترى المبدعين فرادى، وانصاف الموهوبين تراهم جماعات، شلل …