الرئيسية » رصاص ناعم » موتٌ جماعي لرجلٍ واحد

موتٌ جماعي لرجلٍ واحد

أثير صفا  |  

الكاتبة أثير صفا

تلبس الأسود عليك سبعين عقدًا حتى التمام، حدادًا على فقدك، على وقتك القصير معها قِصَر تنورتها ونظرك، فمُت على مهلك، ودعها تلتمس لك في موتك سبعين عذرًا، وتلبس لك في كل يومٍ فستانًا أسود، كلّ مرةٍ، في قَصَّةٍ مختلفة.

حين ترتدي الأسود على لحمها الأبيض تبدو مثل فيلمٍ قديمٍ فاتَك. من زمنك الجميل لم يبقَ إلا هي، وتسجيل صوتي – ربّي- كم هو رديء. تحتار فيك: بأيّة لغةٍ غير شعريةٍ تصفك ميتًا فترضيك؟!

تصطفيك، من بين آلاف الذكور ملكةً.. لتموت؟! كيف طاوعتك قدمك على الزلّة على الانزلاق على السقوط عن جسدها كورقة توت؟! والليل طويلٌ بطول لسانك، كمناكفاتك خانق، والنهار أنت من طواه كصحيفةٍ ووضعه تحت إبطه مُخفيًا خبر وفاتك. ولكنّ الموت الجماعيّ مفضوح، كأسرابٍ من الطيور المهاجرة تتساقط دفعةً واحدة، حول امرأةٍ واحدة.

موتك كثير، غريب، ومدهش.

مبهر، كما أبهرَتها تلك الأضواء الصفراء في إحدى اللوحات الزرقاء لفان كوخ، وكما أبهرك فان كوخ نفسه. قطعتْ لك عهدًا بأن تغني لك، فقطعتَ لها كلتا أذنيك! المتطرّف لا يسمع. تمرّ الآن في رأسها عناوين المانشيتات في الصحف القديمة، كانت مكتوبةً بخط الرقعة حين عجزت الآلة الكاتبة عن الطباعة بالفونط العريض. آخر مانشيت كُتب بهذا الخط كان مرثيةً لعبد الناصر، يومها تمامًا مات – مذهولاً- آخر الرقّاعين. وموتك كان شبيهًا بموت كليهما معًا، النعي والناعي والمنعيُّ كُنت. وآخر الحِقَبِ أنت، خلاصتها.

قُلت: “لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا”، وهي لا تدري أبرحت أم بلغت أم مضيت! لكنها على يقين أنك الآن غير موجودٍ بشكلٍ مُفزع. قوّاد! تنام كالقواد وتتركها بلا قلق ولا مسكّنات ولا حسٍ إنسانيٍ بسيط، ويبقى الليل للبغايا رخيصًا تعيسًا فارغًا مهما امتلأ. كالضمير تموت وتأخذ معك كل الأخلاقيات؛ موجز التاريخ الإنساني، ليبدأ العالم بعدك من الصفر.

أنانيٌ أنت بموتك الجماعي.

كاتبة وروائية فلسطينية  |  خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

رولا عبد الحميد تقول: إنها تجلس وحيدة في حضرة المحبوب

يقوم نص الرواية على حكاية حبَ بين حبيبين لا يلتقيان أبداَ، يدقَ قلبها، وتشعر بالاضطراب …