مناهل السهوي |
كان في قريتي رجل غريب الأطوار، يخرج ليلاً ويتلصص على النوافذ، كان يعرف أسرار كلّ أهل القرية، وحين يعلم أنَّ أحدهم حاول تغيير قصة شَعره أو ثيابه أو سياراته قتلهُ في اليوم التالي وهكذا وخوفاً من القتل، وحرصاً على حياتهم صار شَعر كلّ الرجال طويلاً، لحاهم وصلت بطونهم، وثيابهم غدت قديمة وبالية.
وما علاقتنا نحن بهم وبه! ماذا نفعل لأناس يعرفون عدوهم ويجعلونه صديقهم! نعم لما نضيّع وقتنا، فلنتحدث عن شيء آخر، في حين سينشغل أحدٌ غيرنا في الدفاع عن الرجل القاتل، (ربما هو صديق قديم له، أو لأسباب أخرى لا نعلمها!)
حسناً يبدو أن الكاتب عندنا تربطه مع محيطه، وفي الغالب علاقة سيئة للغاية سواء بسبب اختلافه الفكريّ أو المجتمعيّ أو الدينيّ، فهي مكونات رافضة بمعظمها لكلّ أشكال الاختلاف، لأسباب كثيرة (دينية، سياسية، ثقافية وتاريخية..) وهذا الرفض لا يأتي بصيغة فكريّة إنما عبر أساليب المراوغة وتقديم مبررات سطحية لا علاقة لها مطلقاً بمحاولة إثبات أن الاختلاف “خاطئ” وهذا من أخطر ما قد يحدث في عملية التطور الفكريّ، تماما كجواب الأهل لابنتهم حين يمنعونها من الخروج بينما يسمحون لأخيها ( لأنك بنت\ ممنوع وانتهى\ هو رجل لا خطر عليه) نعم هذه الأسباب اللامنطقية تُقَدم شبيهاتها في ردع الكاتب اجتماعياً ودينياً، زد على ذلك أن معظم شعوبنا لا تقرأ وإن قرأت فلا رغبة لديها في النظر أبعد من أنفها أو الانطلاق بفكرها خارج المكان والزمان ومحيط الكاتب بل لتُسقِط ذلك على شخصيات تعرفها، فذلك يجعل معرفتها متماسكة، وهي معرفة آمنة تسعى خلفها الشعوب الخائفة، بأن تكون المعلومة مقدمة ضمن إطار ثقافي وفكري واجتماعي مفهوم ومقبول، في حين أنّ التعليم الذي تلقيناه لم يكن في معظمه سوى وهمٍ لاكتساب الاسم والرضى الاجتماعي، لنثبت لأنفسنا وللآخر أننا بشخصيتنا المعرفية الوهمية هذه، مؤهلون لإصدار الأحكام والانخراط في الثقافة المعاصرة.
تحدثنا عن اغتيال كاتب منذ فترة في هذا الموقع، فجاءنا قتلة بأشكال أخرى، متطرفون يقبعون في زوايا المجتمع، تحدثنا عن الذين يرفضون “مس الذات الإلهية” وحاسبوا الآخر بالقتل، فهجم علينا أناس يدعون الإنسانية ولا يفعلونها ويرفضون “مسَّ ذات عقولهم”، ومرة أخرى تُقتَل العقول عندنا من أقرب الناس إليها، من أشخاص عاشت معهم وقالت لهم كلّ يوم: صباح الخير! مع ابتسامة، لا أحد غريبٌ، فنحن الذين نقتل بعضنا، ونؤطر مبدعينا ببنية اجتماعية محددة مسبقاً. لماذا؟ وما الذي نريده من وراء ذلك؟ وهل نحن بالفعل على دراية بما نقترف؟
بالتأكيد هناك أشكال للتطرف، وإن تحدثنا عنها اليوم، إنما نتحدث عن التطرف في الحياة اليومية للأفراد الذين يظنون أن التطرف بعيد عن بيوتهم وأن شهادة جامعية معلقة على الحائط وذهاب أطفالهم للمدرسة بثياب نظيفة ومرافقة زوجاتهم إلى سهرات عائلية تبعد شبح التطرف عنهم فهم ينتمون للثقافة المعاصرة “ببريستيج” مبارك.
القصص تحدث من حولنا، في كلّ ساعة، نستخدمها لنوسع رؤيتنا للحياة، فنحن في النهاية سلسلة طويلة من الحيوات، المشكلة تكمن في اسقاطاتنا، رغبتنا في أن نحصر الفكرة ونضيق عليها حتى تصير على مقاس وعينا فبين قراءة وقراءة هناك اغتيال وهناك رصاصات توجّه نحونا، نحن مجتمعات تقرأ لتغتال الكاتب ولتقول “لا ذلك لم يحدث ولن يحدث” كلّ ما يتعلق بعمليات “الخلق” يجعلنا نعاني رهاباً يتعلق بذاكرة الآخر، معتقدين أن الذاكرة التي نتشاركها مع آخرين إنما هي غير مشروعة وخطرة على ماضينا وحاضرنا، لذلك كان التطرف عميقاً أكثر مما تخيلنا، لأنّه كان قابع في نظرتنا لأبسط الأشياء، لطريقة الكلام أو طريقة إيصال ما نودّه، لا بل كان أخطر من ذلك، إن التطرف موجود في الشهادات المعلقة على الجدران، في الألقاب (الطبيب والمهندس والمعلم)، وهذا ما نحاول تجاهله كلّ يوم وتبريره بأننا مكونات اجتماعية لها مبادئ تختلف عن غيرها من الشعوب، فالتطرف هنا يثق بنفسه وبوجوده كضيف يرحب به دوماً، التطرف يهزّ أكتافه أمام تصوراتنا الذاتية عن الحياة، في كتبنا المدرسية، وفي الحقائب التي حملنا إلى أوروبا، في مطارات برلين وكندا وستوكهولم، التطرف بدأ من قرانا الصغيرة، من شوارعنا ومن مدننا الكبيرة، حين تركتم ابنكم يجري عارياً في الشارع وغنيتم لعضوه الذكري ونهرتم ابنتكم حين فتحت قدميها، وحين نظرت إلى نفسها وسألتكم ماذا فعلت؟ لم تجيبوا واكتفيتم بقرص أذنها. التطرف بدأ حين استشهدتم بما قالته الكتب المقدسة لتبدوا انسانيين وكأنكم تعرفون تاريخ البشرية كله من ألفه إلى يائه، لكن الحقيقة أن هذه الاستشهادات كانت الضعف والعجز عن المعرفة، هي رفض الآخر والأحكام الخاطئة، التطرف حين قيّمنا من حولنا حسب عائلاتهم ووزنها في مجتمعاتنا وقلنا أن ذلك ناجح لأنه والديه هكذا والعكس صحيح، التطرف لبس أثواب أقرب الناس إلينا.
مرحباً أيتها الشوارع الكثيرة، مرحباً أيها الأناس القابعون هناك، في عروشكم الذهبية تقلمون أحلامنا، توجهاتنا، إبداعاتنا، معرفتنا ورغبتنا في التغيير وتقولون “نعم نحن نحفظ انسانيتنا وإنسانية غيرنا وإنسانية أجيال قادمة، نحن المأمورون بأن نحيى لنغتال كلّ كاتب وكلّ فكرة وكلّ روح تحاول الصعود على سطح المستنقع والتحليق”.
مرحباً أيها الناس، يا كلّ من يحمل داخله شخص غريب الأطوار، مستعدًّ في كلّ لحظة لقتل أيّ أحدٍ، أي توجهٍ لا يحمل جينات المشي في المكان لعقود طويلة، مرحباً يا من ستجيئ إلي غداً مؤكدا أنك تعرف الرجل المتلصص قاتل أهل قريتي المختلفين، مؤكداً أنه صديقٌ مقرب، وربما تقتلني أو تطلق رصاصتك نحوي لأني تحدثتُ عن رجل تخيلته وأنا أكتب البارحة، رجلٌ لا يعرفه أحد سواي.
شاعرة سورية | خاص موقع قلم رصاص