نجتمع في الممر بانتظار الساعة الثانية عشرة موعد محاضرة عن “ترجمة النصوص المسرحية”، استند إلى الحائط قرب المكتبة أدخن سيجارتي بصمت هرباً من صحفية تطلب تصريحاً عن مشاركتي، لكنها تحاصرني بمسجلتها الكاسيت التي انقرضت من عصور ما قبل ظهور التكنولوجيا الحديثة.
– ما بحب أعطي تصريحات..
اشعر براحة مع ابتعادها، أفكر دون تأنيب ضمير:
– ولي عليّ شو جفصة مع العالم..
قاعتان على ما أظن، في إحداهما تجتمع جمعية القصة القصيرة والرواية وفي الأخرى جمعية النقد، ونحن نقف في انتظار انتهائهما. أنظر إلى ساعة موبايلي التي تجاوزت الثانية عشرة. أحاول عدّ المتطوعين لحضور الندوة، خمسة على ما أظن، أشعل سيجارة أخرى.
أراه من بعيد.. وكأنه هارب من أفلام الويسترن، لاكي لوك في كَبرته، لا ينقصه سوى حصان موستانغ مروّض على أشدّه.. طقم كحلي كلون مراييل الابتدائي الجديدة، أو لون جرار الغاز على الأصحّ، على القبة دُرِزَ شريطين من المخمل الأسود المائل إلى الرمادي، قبعة رعاة بقر عريضة الحواف كالمكسيكية وحذاء مبوّز… متأكدة أنه من جمعية شعر التفعيلة.
لا أعرف ما الذي دفعني لتكبّد كل هذه المشقّة للانضمام إلى اتحاد الشخصيات الكرتونية هذا، الصراحة أفكر جدّياً بالانشقاق عنه كموضة الانشقاق هذه الأيام لكن لأسباب مختلفة ودون فضائح على الانترنت.
قصير في طقم سكري اللون، يفتح الأبواب على الجمعيات المختلفة ليرى إن كانوا قد انتهوا من اجتماعاتهم أم لا.. وظيفته أن يؤمن قاعة فارغة لمحاضرتنا.. جمعية النقد المكونة من أربع عجائز ثمانينيين تحتج بشدة على تطفله، فهم يناقشون موضوعاً نقدياً بالغ الأهمية.
يائساً ينصرف إلى جمعية القصة والراوية ليفتح عليها الباب، أسمع صرخات الاستهجان من الداخل:
– ما خلص وقتنا.. ورح نقعد لحتى نخلّص..
يغلق الباب ويقول لأحد “زملائي”:
– هلأ خمس دقايق فوتوا.. وقتا بيحسّوا على حالون وبيطلعوا..
أحاول كبت ضحكتي العالية، أهمس للدكتور نبيل الواقف قربي والدموع في عينيّ:
– دكتور.. خلينا نلفلفها على السريع ساعة زمان وصلى الله وبارك..
فيبتسم لي متآمراً بخبث، أُثني على حذائه أيضاً وأكشف له أحد الأسرار حين كان مدرسنا في المعهد:
– كل بنات الدفعة كانوا معجبات بصبابيطك وشناتيك.. نقضّيها طول الدرس ونحن عم نتفرج.. وبعد الدرس منتناقش…
– بالصبابيط؟
– والشناتي كمان…
لم أنا هنا؟ لن يحدث شيء إن انسحبت (على السَكت)، واضح أن نشاطات الاتحاد على أشدّها الآن، ندوات واجتماعات ولا قاعات فارغة.. والكل يركض، وصحفيين، وتصوير.. وكله سيصدر في الجرائد الرسمية.
ندخل على اجتماع جمعية القصة، قاعة محاضرات نظامية، مقاعد مخملية حمراء ومنصة وميكرفونات.. المحاضر يصرخ بالميكروفون عن دستورنا، أفضل دستور في العالم كله، وعن الحقيرة فرنسا التي لا تسمح لمواطنينا بالانتخاب ضاربة عرض الحائط بجميع الديمقراطيات والحريات.
أجلس قرب الممر كعادتي حين أضطر لحضور عرض مسرحي غير لائق، أنسب مكان للانسحاب دون إزعاج المهتمين، على الجدار قربي لافتة كرتون كبيرة:
” الدكتور بشار
الخيار الوطني للكتاب والأدباء والمثقفين
اتحاد الكتاب العرب”
ينتهي المحاضر من الصراخ ويبدي استياءه من دخولنا، صاحب الطقم السكري يحاول تهدئته دون جدوى.. ينسحب الأعضاء ونتخذ أمكنتنا على المنصة وأمامنا الميكرفونات وقنينة البقين.
من مكاني أبدأ عملية الإحصاء: صحفيتان (قرأت تقرير سانا منذ عدة أيام، لم يأت فيه ذكر لحضوري لأنني غير لبقة في التعامل مع الصحفيين، لكن التقرير تطرق إلى رأي الدكتور توفيق (المديني) بالأحرى توفيق الأسدي، خطأ أقل من عادي طبعاً بالنسبة للصحافة السورية العظيمة)، امرأة نائمة (ليس كلياً تماماً فهي تفتح عينيها بين فترة وأخرى، تهزّ رأسها وكأنها تؤيد وجهات نظرنا في ترجمة النصوص المسرحية، ثم تغلقهما مجدداً)، نسوانتين بلا طعمة، وواحد ونص مهتمّ.. المجموع الكامل: ستة ونصف..
غمرتني سعادة بالغة مع انتهاء محاور الندوة.
– معقولة أنا ماني حدا جدّي كل هلقد؟
سألت عن المرأة النائمة فأنكر الجميع معرفتهم بها، رغم أنني لمحتها في الاتحاد مراراً وأعلم جيداً أنها موظفة فيه، فكرت:
– وفضايحية كمان.. مسكت مقلاية المرا وحكيت..
***
محجبة ترتدي مانطو تسير أمامي ممسكة بيد ابنتها في الفستان الأبيض ذا الشيالين، تصرخ بصوتها الطفولي:
– بالروح بالدم نفديك يا بشار..
أراقب وجوه أصحاب الدكاكين، لا أستطيع قراءتها، لديّ خلل في الاستقبال.. ربما بسبب الإرسال المشوّش أيضاً فأتذكر نظرية التلقي في المعجم المسرحي وهتافات مريم التي التقطتها من المدرسة في السنة الأولى من الحرب، تعب والدها من صراخها فطلب منها التوقف عندها فاجأته:
– يا بشار إنت يللي شعّلت النار..
وحين طلب منها التوقف أيضاً أجابته بغضب:
– حيّرتونا… ما بيصير لا هاد ولا هاد؟
في الشارع المستقيم فراشتان… تتراقصان حول بعضهما بفرح.. لون أصفر باهت وشفاف.. تذكرت الفراشات الحمراء التي كنا نصطادها من الوادي عند البحيرة أنا وجورج، ابن جيراني.. كنا في الصف الأول.. أو في الثاني.. أجمع دود الفراش الصوفيّ الملمس وأضعه في قطرميز شفاف.. أراقبه يقرط الورقات الخضر التي أضعها له كل يوم، انتظره كي يتحول إلى فراشة لكنه لا يفعل.. يبدو أن الدودة لا تقبل التحول إلى فراشة في قطرميز يأسرها… من يومها ابتكرت “نظرية القطرميز”.. نظرية خطيرة جداً.. وتشبهني..
عند الباب الشرقي، أول باب تشرق منه الشمس على دمشق فيخرج النور من فتحاته الثلاث لينير ظلام أواخر الليل، سيارة بيك آب نُصب عليها رشاش (بي كي سيه)، على جانب السيارة شعار الحزب القومي السوري، أتجاوزها وأنزل درجات النفق.
22 أيار 2014
موقع قلم رصاص الثقافي