لم أر فيما يسمى “الثقافة العربية”، شأناً مربكاً ومختلطاً كل هذا الاختلاط، كشأن الهوية، فالجميع يدرسها ويتدارسها، كمقدس مبهر وخطير على سيرورة وصيرورة لهذا الذي أطلق عليه لغة اسم “مجتمعا” عربياً مترامياً تجمعه بالعموم لغة ودين، ويفرقه بالخصوص كل شيء آخر تقريباً، ليبدو شأن الهوية الذي أطنب في شرحه وتكراره كمنازلة غزلية بين شعراء يتمتعون بأستذة الشيخوخة عبر سرد مغامرات الصبا.
ما أعرفه أن مصطلح الهوية مصطلح حداثي، ولكني لم أعثر في طبقات التنظير العربي حولها إلا إرهاصات تراثوية، تسحب الحاضر خلفاً لتقايسه على وقائع الماضي وقيمه “الراقية” أو” النبيلة”، في عتب واضح على الكون الذي لم يرضخ لهكذا معلومات كافية ووافية بل ومكتملة في شأن وضعه الحداثيون كنا قد سبقناهم إليه بقرون، ولم أعثر كذلك في تلك الطبقات على أي ذكر لفائدة الهوية، أو ذكر لأية منفعة لها!! ومع ذلك يتم نقاشها كشأن يجب أن يكون موجوداً بالضرورة، وكأن المنفعة منها شأن خارج عن علة وجودها، كما إني لم أجد وضوحا في ماهيتها، إذ ما هي الهوية كيف تتجلى ثقافيا وسلوكيا؟ ومع كل هذه المماحكات والشروحات والتعميمات والمدائح والتعظيمات، لم ألمح في أي من ثنايا هذه الطبقات تقييما ولو واحدا عن نوعية هذه الهوية! ـ (أو الهويات المتداخلة التي يحلو للمنظرين تلفيق حل لوقف اصطدامها) ـ هل هذه الهوية سلبية أم إيجابية؟ جميلة أم قبيحة؟ قاتلة أم داعمة للحياة؟ هل هي بحاجة إلى تطوير وتغيير وتبديل أم لا؟
كل هذا لا يلمحه تنظير المنظرين “العرب” للهوية، حيث يبدون في الشكل الخارجي حداثيون، وفي العمق والمعنى تراثيون، أي أنهم منفتحين على الحداثة وأسئلتها، ولكن غير مستعدين للإنخراط فيها، وعليها هي (الحداثة) أن تتفهم أسبابهم وتعدل هي من رؤيتها للهوية.
فهؤلاء المنظرون لم يراعوا في رؤيتهم للهوية من حيث نوعيتها تأثيرها السلبي أو الإيجابي في حال تحققت، على الرغم من كثرة الأمثلة والتجارب التي عبرت فيها البشرية، (مثل الهوية التي أدت إلى مجازر الهنود الحمر، والهوية التي صنعت الأبارتيد في جنوب أفريقيا، والهوية التي قتلت الأرمن والسريان في كليكيا أوائل القرن الماضي الخ) واكتفوا بإعلانها حسب أروماتهم الثقافية بأنها شأن يودي إلى الفخر والفخر يودي إلى المكانة، والمكانة تودي بنا للعيش بثبات ونبات، ولهذه النتيجة المتهافتة يجب على من تنعم بأنوارها الدفاع عنها بكل ما أوتي من قوة وثقة دون أن يسأل عن منفعة هذه الهوية أو نوعيتها.
ومع هذا تبقى الهوية شأن أساسي في حياة الشعوب، ولكنه يتوجب علينا سؤال عن أية شعوب نتكلم؟ فالواضح من حداثية السؤال، إنها الشعوب المجتمعية التي يلتزم أعضاء المجتمع فيها بالمواطنة وإستحقاقاتها، وكذلك ليست أية مواطنة، بل هي مواطنة ذات عقد إجتماعي واضح (غير موارب) ومعلن يخضع فيه المواطنون للمساءلة عن مسؤولياتهم مهما صغرت أو كبرت، مواطنون تجمعهم المصلحة في العمل والإنتاج ،يفرزون دولة تنظم أيقاعهم وتحمي تنافسهم داخلياً وخارجياً، هذا هو القصد من سؤال الهوية الحداثي بالضرورة الذي لايكفيه بتاتاً الانفتاح على الحداثة بل الانخراط بها بواسطة الإنتاج، فالشعوب التي لا تنتج شيئا هي مجرد شعوب (عباد وبلاد) يربطها بالحراك البشري العام شرعة حقوق الإنسان ليس إلا، والتي وضعها حداثيون من أعضاء مجتمعات منتجة، لتتحول الهوية كما نظر لها الهوياتيون “العرب” مجرد إعلان عن تخلف يستحق الشفقة والمساعدة لأقوام تعلن عن هويتها بلا إنتاج، وربما أعتبر خملة هذه الهويات أن التخلف هو البديل الراقي والنبيل، عن تلك الهويات التي تسببت بها تلك الحداثة المتخلفة أخلاقيا، وذاك والإنتاج المتوحش.
(من نحن ؟) يبدو السؤال جزافياً في حال عدم الانخراط بالحداثة، ولكن ومع كل ضرورته يبقى هذا السؤال موضع خلاف، يستتبع آلاف الأسئلة الفرعية والجانبية والجزافية والواهية والفهلوية والعصابية والعنصرية إلخ إلخ… في حال الانفتاح على الحداثة فقط، ولكن و لنكرر السؤال: واقعياً من نحن؟ ربما ومنطقياً علينا أن نهمل الأسئلة الخرقاء المذكورة آنفاً، ونلتفت الى أسئلة مثل: ماذا نحن؟ وكيف نحن؟ والقيمة الفعلية لنحن؟ وواقعياً أيضاً ننظر إلى أنفسنا ورصد أوضاعنا الحقيقية المعتمدة كليا على هويات تراثية أو فلكلورية في أحسن الأحوال، نعم الآن على الأرض في سوريا والعراق وفلسطين واليمن ومصر الخ….. إننا هؤلاء الذين نراهم على الشاشات معلنين هوياتهم بكل فخر… بالضبط إننا هؤلاء الذين يتذابحون، ليس لأننا لا ننتج شيئاً مؤثراً فقط (لم ننتج أيضا)، بل لأنها الثقافة التي تعلن عنها الهوية عبر السلوك والأداء تقول أننا كذلك وعملياً وعلانياً، هذه هي هويتنا التي سعى منظروا الهوية “العرب” لإعلانها دون أن يتحسسوا أي خطر من وراء تنظيراتهم الملغومة وتساليهم الفكرية، ليقل أحد من نحن أو ما نحن وكيف نحن غير ما نحن عليه الآن وعلى أرض الواقع؟ والطامة الكبرى وبعد كل هذه الكوارث لما يزالون يتبنون ويعلنون نفس البروباغندا “المعرفية” على الرغم من وقوع مكتبة التراث على رؤسهم فهم يبحثون في طبقاته على جواب لسؤال حداثي مصرين على حتمية وجوده بين أنقاض تهاوت بسبب هشاشتها لوحدها دون تدخل من غريب أو “غربي” إنها وببساطة لا تنفع كمواد أولية في مهنة تغيرت جذرياً هي مهنة التفكير.
لا توجد هوية قبل الإنتاج، أي أنه لا توجد هوية قبل الشبع والمنعة، فنحن في عصر المجتمعات شاء من شاء وأبى من أبى، وقد يتغير هذا العصر قريباً، ولكننا بالتأكيد لسنا في عصر التجمعات السكانية وبلاد أرض الله الواسعة، والتنافس الإنتاجي بين المجتمعات هو من يعلن الهوية ومواصفات أصحابها الرديئة والجيدة، الجميلة والبشعة، الخيرة والشريرة، بل يوجد ما قبل الإنتاج تحزبات وعصبيات وطوائف تتمايز بلا مصالح أو منافع، أطلق عليها المنظرون اسم هويات وطفقوا يتدبرون مصالحة بينها، ولكن أية مصالحة؟!! فالهوية شأن تنافسي عند المنتجين، بينما هي شأن عدائي بين المتقاسمين الذين لا ينتجون شيئاً تقودهم هوياتهم إلى صراع الحق والباطل، وليس تنافساً بين الخطأ والصواب، لتصبح الهوية ممثلة لثقافة الغزو مرة أخرى لتقوم الغنائم مقام الإنتاج، ويصبح الآخر الهوياتي ضرورة من ضرورات الاستبداد.
عن أية هوية نبحث نحن ومنظرينا الأفذاذ؟ تفضلوا واحصدوا محاصيل اشتهاءاتكم الرجيمة، ومشاريعكم الثقافية السقيمة، وآثارها التربوية المدمرة، والحاضر يشهد أن هوياتكم الموعودة هي سيئة النوعية ولا تليق بالإنسان، وهذا إذا كانت هي فعلاً هويات وليست إعلان عن انقسامات عمودية في بنية هؤلاء العباد. فتوقفوا عن إخراج الأرانب من جيوبكم، فقد سئمنا فهلوياتكم إلى حد القرف.
مجلة قلم رصاص الثقافية