“درب حلب كله شجر زيتون”
إن كنت ممن سكنوا حلب يوماً، وسمعت أحد مطربي القدود الحلبية وهو يغني موال “درب حلب” الشهير، ويتغنى بشجر الزيتون الممتد طوال الطريق المؤدي إليها، ستتبادر إلى ذهنك فوراً الدروب المحيطة بهذه المدينة، وستشعر بالخفة وتطرب، فالدرب الشمالي الواصل بين حلب وتركيا والغربي الواصل بينها وبين إدلب يضم أجمل القرى السورية في الداخل والتي تمثل فعلاً جنة خضراء، كذلك الأمر في الدرب الشرقي أو في الدرب الجنوبي الذي يصل حلب بالعاصمة دمشق والذي ترى فيه الحقول على مدّ البصر.
عندما طالت الحرب مدينة حلب في عام 2012م، تقطعت كل الدروب الواصلة إليها وبات دخولها والخروج منها أمراً غير هين وتحولت مداخلها إلى نقاط عسكرية لأحد الأطراف المتصارعة، فزرعت الحواجز مكان أشجار الزيتون، أما المدينة ذاتها فقسمت داخلياً إلى شرقية وغربية بمعبر فاصل ما لبث أن أغلق تماماً فبات لزاماً على من يسكن في حلب الشرقية أن يسافر أكثر من عشر ساعات في طريق زراعي/ ترابي إلى مدخل حلب الجنوبي الغربي الواقع تحت سيطرة القوات الحكومية حتى يصل إلى حلب الغربية، وبات على من يسكن في حلب الغربية كذلك أن يسافر أكثر من عشر ساعات -في الطريق ذاته- إلى مداخل حلب في الشمال الشرقي والواقعة تحت سيطرة المعارضة المسلحة حتى يصل إلى حلب الشرقية.
من البدهي أن توقف هذه المداخل بسبب الاشتباكات العنيفة أو القصف أو القذائف أو تقدم أحد الأطراف في الصراع يعني محاصرة المدنيين في غرب حلب أو في شرقها وهذا ما حدث فعلاُ ولأكثر من مرة على مدار الخمس سنوات الماضية، وهذا يعني أن المدنيين في حلب لم يعانوا من القتل والتهجير وتدمير منازلهم فحسب، بل تعرضوا للتجويع أيضاً وافتقادهم للبضائع الأساسية ومستلزمات الحياة. وأصبح ذلك الطريق الزراعي/ الترابي الطويل هو الطريق الوحيد من حلب وإليها وسمي القسم الأكبر منه بطريق خناصر نسبة لاسم إحدى القرى هناك وتصدرت أخباره أهم وكالات الأنباء التي تنقل مستجدات حلب على الصعيد الميداني وذلك نتيجةً للاشتباكات العنيفة والمستمرة بشكل دائم عليه في محاولة من كل الأطراف للسيطرة.
عندما تخرجت من قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة حلب في عام 2012 كان من الرفاهية إيجاد فرصة عمل جيدة في إحدى المدارس الحكومية أو حتى الخاصة لأدرّس اللغة العربية وأتقاضى راتباً ضئيلاً يعينني على أن أعيل نفسي في ظل وضع اقتصادي بالغ السوء كان أحد نتائج الحرب التي يدفع فاتورتها المدنيون في سورية لكن، وبالمصادفة وجدت فرصة لأشتغل معلمة في منظمة الأونروا لتعليم الأطفال الفلسطينيين في إحدى المناطق الساخنة وكانت هذه المنطقة الساخنة/غير الآمنة هي مخيم النيرب الملاصق لمطار حلب الدولي في ريف حلب الجنوبي والواقعة على طريق خناصر الشهير سالف الذكر نفسه وكان لابد أن أقبل في ظل انعدام الخيارات وهذا يعني أن أسافر كل يوم من حلب الغربية وأقطع قسماً من ذلك الطريق إلى أن أصل إلى مدرستي وأن أعود في اليوم ذاته إلى منزلي.
أستطيع أن أقول أنني اعتدت السفر المرهق الطويل يومياً، مضايقات الحواجز والتفتيش اليومي، الاضرابات الحاصلة على الطريق مما يجعل السيارة التي تقلنا -أنا وبعض المعلمين- تنطلق بسرعة صاروخية لتجاوز المنطقة المجاورة للاشتباكات أو التوقف تماماً عن السير لفترة من الزمن إلى أن يتحسن الوضع قليلاً، المنطقة المقنوصة من الطريق والتي يرغمني السائق أن أنزل رأسي فيها لتفادي رصاصة يمكن أن تخترق رأسي، انقطاع الطريق بشكل مفاجئ مما دفعني لوضع بعض الحاجيات عند بعض الأشخاص الكرماء في مخيم النيرب في حال اضطراري للنوم في منزلهم وعدم إمكانية العودة إلى حلب. والمعاناة السابقة ليست حصراً علي أو على المعلمين فقط بل تنسحب على الكثير من أصحاب المهن الحرة، الموظفين و طلاب الجامعة، وبما أن كل الأمكنة في حلب وريفها خطرة فكان من العبث الحديث عن المخاطرة في الحياة.
في أحد الأيام عندما كنت في طريق العودة قلبت شاحنة ضخمة محملة بالأغذية على جانبها وقطعت الطريق وذلك لأن الطريق ليس أوستراداً مخصصاً لمرور هذا النوع من السيارات مما ولد اختناقاً مرورياً قاتلاُ في طريق الذهاب والإياب، أعتقد أننا انتظرنا أكثر من ساعتين في السيارة دون جدوى في ظل توالد مستمر للسيارات، مما دفعنا أنا ومن معي من المعلمين بأن نأخذ قراراً جريئاً بالنزول من السيارة وإكمال الطريق سيراً على الأقدم، مشينا بالفعل من قرية الشيخ سعيد إلى منطقة الراموسة/ مدخل حلب وأنا أغني في داخلي كي أشعر بالخفة وأطرب :” ودرب حلب ومشيتو…كله شجر زيتون يا عيوني”!
موقع قلم رصاص الثقافي