الرئيسية » يوميات رصاص » يوميات حرب طائفية أهليّة بمحلّية (14)

يوميات حرب طائفية أهليّة بمحلّية (14)

– بابا.. أدّيش حق البقرة؟

– 250 ألف..

يصفن الصغير صفنة عجيبة:

– يعني كتير كتير..

من النافذة على يمين الطريق في مخيم جرمانا أرى ضبعة، حقيقية، مربوطة بحبل إلى جدار. تلوّح بذيلها ككلب وديع لصبي يصبّ لها الماء في قصعة.

جانبي، يجلس في كامل بذلته العسكرية ترابية اللون، على جيب سترته الأمامي شعار حزب الله، على فخذه الأيمن هراوة كهربائية رسم عليها جمجمة مع عظمين متصالبين، أما المرأة في المقعد الأمامي قرب السائق فتهيل عليه بدعوات تلفظها بلسان ثقيل:

– الله يحميكون بجاه العدرا…

أحاول النظر إلى وجهها، نصف مخبولة.. أو هكذا يبدو لي..

– والله لو بعرف إنك رح تطلع كنت قعّدتك مكاني… الله يحميك..

يتغامز الركاب ويخفون بداية ابتساماتهم، إنها مجنونة بالفعل.

ينزِل “حزب الله” في موقف أبو هاني ويلوّح للمرأة مودّعاً.

حرّ كاللهب رغم أنها الحادية عشرة صباحاً ما تزال، تتسلل حبات العرق من شعري لتكرج نزولاً على الصدغين. أحاول فتح نافذة السيرفيس إلى أقصاها لكنها لا تستجيب، عالقة أو مُثبّتة.

أنزل عند موقف باب الشمس، أقطع إلى الجهة الأخرى.

كأني أرى جيوش خالد تحتشد هنا.. أربعة شهور من حصار تكلل نصرها خيانة.

كيف استطاع أن يفاخر بفتحه دمشق وبالسيف؟ دمشق لا تفتح قلبها للداخلين عنوة.. دمشق تحتضن الجميع..

بالمختصر.. لا أحب خالد بن الوليد، ولا مسجده في حمص وأتمنى بكاملي ألا ترممه وزارة الأوقاف.. فليبقى كما هو.. شاهداً على الهزيمة.

على حجر كبير في الشارع المستقيم جلسا، كلاهما في السبعين أو يزيد:

– المقامات بالموسيقا العربية سبعة..

– نعم.. (مع هزة رأس توكيدية)

– الحجاز..

– نعم.. (مع هزة رأس توكيدية)

– النهاوند

– نعم..

ببساطة سوريون.. رغم القصف.. ورغم الموت مازلنا نتكلم عن الموسيقا، شعب كهذا لا يموت.. وإن مات يحمل المسيحي تابوت المسلم ويحمل المسلم تابوت المسيحي ليُودِعه تراب سوريا.

في الشارع المؤدي إلى القيمرية، قرب البيت الذي سقطت على سطحه قذيفة هاون مصحوبة عند إطلاقها بـ ” الله أكبر” فتطايرت شظاياها عند الهبوط لتقطف وبكل بساطة روح سوزي الوردة أو سوزي الفراشة كما كان يسمّيها آدم ذا السنوات الخمس يمر عسكر فرانسيس ببنادقهم، عسكر من أيام الانتداب.

مشهد (سوريا لي) تماماً.

يهرب جنديان فرنسيان بكامل عتادهما متجهين إلى سبيل ليشربا لكن الماء مقطوع، فيدخلان إلى البقالية قربه، يخرجان بعد ثوان خائبين ويركضان مسرعين ليرويا عطشهما بطريقة ما قبل أن يبدأ تصوير المشهد التالي.

انظر إلى حاميات الساق المقلوبة المثبتة فوق سرواليهما بالتشيك تشاك وأفكر:

– الله يكسّر إيدين مسؤول الملابس يللي لبّسكون..

أتسلل في الحارات نحو جادة الغزي حيث أدمنت على التوقف عند سبيل الجزائرلي لأشرب منه الماء إن لم يكن مقطوعاً، حتى الآن مازلت أقاوم فكرة حمل قنّينة البقين الصغيرة في حقيبتي لثقتي أنني إن عطشت سأجد من يشرّبني رشفة.

كلما اقتربت يصبح صوت العود أوضح مع أغنية لأم كلثوم.. ابتسم وألوّح للعمو صاحب محل الأعواد ويرد لي التحية بمثلها… ما تزال الحادية عشرة صباحاً.. غريبة أم كلثوم في هذا التوقيت.

أتوقف عند السبيل، أبو حسين يُبعد زجاجة البقين الكبيرة التي كان يملؤها من الحنفية ويمد لي الطاس المعدني لأشرب.

– يسلمو..

– صحة عمو..

يصبح الناس أكثر ألفة كلما داومتَ على المرور في شوارعهم.. وتصبح أنت نفسك أكثر ألفة مع الناس، تتعرف على أسمائهم وعاداتهم، تشعر وكأنهم أقرباء لك.

أتوقف في شارع الثورة تحت جسر المشاة بحثاً عن بِضعِ فيء.. انتظر باص المزة أوتوستراد أو (جوبر مكة أوتوستراد) كما كان يحلو لزيد أن يسميه.. انتظر.. انتظر.. وانتظر..

يقترب الباص فتتزاحم عند بابه حشود خلقت من الفراغ.. أين كانوا مختبئين لا أعرف.. أصل الباب أخيراً.. أسأل رجلاً يقف أمامي:

 – كأنو الوضع مكدوس؟

– إيه.. طلعي..

ويفسح لي مجالاً للصعود..

– والله إلنا سنتين ما ساوينا مكدوس يا إختي.. ذكرتيني.. الله يصلحك بس..

فابتسم.

27 حزيران 2014

موقع قلم رصاص الثقافي

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

وللمُدُنِ مَذاقاتٌ مُختلفة كما فَاكِهة الجَنّات (3)

3 ـ الإسكندرية.. ويحدث أحياناً.. أن تقع في حُبّ مدينة. لم يكن حبّاً من النظرة …