الرئيسية » رصاصة الرحمة » الهوية الموعودة… الهوية المشتهاة (2)

الهوية الموعودة… الهوية المشتهاة (2)

الهلع من الحداثة، جعل جل التفكيريين “العرب” يتسابقون للإجابة قبل النطق بالسؤال حول الهوية، فظهروا وكأنهم يتكلمون بالعتمة كي يخففوا من احتدام خوفهم منها، كاشفين عن قدر عظيم من الهشاشة التي تكتنف محمولهم الثقافي فطفقوا يدافعون عن هذا المحمول من دون التمعن في مكوناته وصلاحيتها لتكوين هوية، أو بالأحرى الإجابة عن هذا السؤال الحداثي، حتى تحولت محاولات (وهي كثيرة للغاية) الإجابة على هذا السؤال إلى معركة (أو غزوة)، متفرغين إلى إدانة المخالفين وإبادتهم، إما بالتخوين أو بتكييف الدساتير والقوانين لقمعهم، لتصبح الهوية فزاعة الحداثة وعدوتها، فمن أراد أن يكون حداثياً منخرطاً فلا هوية له، لذلك يحق للمتكلمين في العتمة إبادته.

الفارق بين الحداثي المعترف بالحداثة، والحداثي المنخرط بها، هو محاولة إجابة الأول على سؤال الحداثة الحداثي، إجابة تراثية بأداءات تراثية ولكن بأدوات حداثية، بينما يرد المنخرط على السؤال برؤى حداثية جديدة ويشترك مع المعترف بالأدوات. فسؤال (من نحن) الحداثي يتضمن من نريد أن نكون، بينما تنعدم هذه الإرادة عند المعترف بالحداثة فنحن (كنا) ونريد إستعادة هذه (الكنا)، لذلك لا يبق لهوية (الكنا) سوى طريقين يستوعبان مقاصدها.

 الأول: هو العودة إلى التراث وإعادة إحيائه، وهذا يتطلب الاستعانة بالتاريخ وعليه في هذه الحالة اللجوء إلى أمرين أولهما تقسيم التاريخ إلى قسمين على الأقل، واحد يبتدىء به زمن (الكنا) وآخر يسبقه وهو قسم عمائي ومغمغ، وثانيهما تزييف هذا التاريخ لجعله تاريخاً مشرفاً وانتصارياً، وكلا الأمرين هو مادة أولية فاسدة لا تصلح لتصنيع هوية، والأمرين يمكن إعتبارهما الرحم الحاضن لجنين العنف.

الثاني: هو تفريخ هويات صغرى بناء على أدلوجة الطريق الأول، ومن ثم إعادة لصقها توفيقياً أو تلفيقياً، على أساس إدعاء التغني بالاختلاف وامتداح الموزاييك القومي المنبثق من التراث “المشترك!” في تعبير عن فرز صامت لمكونات تجمع بشري تحت رعاية سلطة تحتكر العنف إلى أمد غير مسمى.

المجتمع بمعناه الحداثي، هو من يحق له إعلان هوية، أما المراتب ما تحت مجتمعية فلديها “هويات” فلكلورية تغني التنوع والتفاعل الاندماجي مع محيطها المجتمعي، وهنا تبدو خطورة تحويل الفلكلور إلى تراث  باستخدام التاريخ الذي استخدمته الهوية الكبرى، فهذا التحول يدعو إلى إشهار هوية عنصرية متشاوفة على الآخر، وهنا لا ينفع اللصق والتوفيق وامتداح الموزاييك فالنزاع لا بد واقع بين مجموعة الهويات (العنصريات) ولا بد لهذا النزاع أن يكون لا مجتمعياً، فالحقوق التي يقوم عليها المجتمع الحداثي، تبتلعها الفلكلوريات المترثة، لتصبح الهوية الكبرى فارغة بلا معنى، ولا تشكل أية ضمانة أو سقف لأي صراع دام يؤدي إلى إبادة الآخر، إذ لا توفر هذه الهوية الكبرى من حيث بنيتها أي حيز لأي آخر، فالكل أعداء ولن يثبت العكس،لأنها هذه الهوية الكبرى تنتمي إلى تاريخ، والتاريخ إما ذي مظلومية أو ذو شرف رفيع، وفي الحالين نحن أمام عنف مموه أو معلن يحول الهوية إلى ذريعة دموية بدلاً من أن تكون الإعلان النهائي عن وحدة المصالح التي يؤسسها التسالم.

الهوية ولأنها حداثية وناتجة عن سؤال حداثي، هي علمانية بالضرورة، أي أنها مساواتية بالضرورة، (وهذا ما تتضمنه وهما جل “الدساتير” “العربية”) وهنا يبدو افتراق آخر عن الهوية كمفهوم وكأداء، وهنا أيضاً يتجلى مفهوم الانخراط في الحداثة من أجل إنتاج هوية كأحد استحقاقات العيش في العصر والاستمرار إلى عصر آخر، فجميع أصحاب “الهويات الصغرى” في المجتمع هم متساوو الحقوق والواجبات علانية وبمسؤولية قضائية، فأمام الهوية يتساوى الجميع، وعندها لا وجود لأكثرية أو أقلية من أي نوع (لا سياسية ولا مذهبية طائفية ولا سلالية) فالجميع يمتلكون ذات المسؤولية تجاه حقوقهم و واجباتهم، ولا تشفع لهم أصولهم أو “تاريخانيتهم” أو تمايز فلكلورهم في شيء، وأي خرق لهذا الشرط هو خرق للهوية وشروط وجودها، وليس لأحد الحق بالتمييز حتى لو كان التمييز إيجابياً، فليس للدين أو العرق أو الجنس أو اللغة، أية ميزة إضافية في بنية الهوية وإلا صارت إلى قابلية التمزيق والتفتيت، وهي حالها الآن في البلاد “العربية” التي اعتمدت التأصيل التاريخاني عماداً لهويتها.

ربما يقول قائل أنه من غير الصحيح فرض هوية بمواصفات علمانية، على شعوب لها هذه المواصفات التي أرادتها لنفسها (وهنا تجميل للتخلف وجعله حقا مكتسباً) وقد يكون هناك ردود كثيرة على هذا القول في غير نوع من الطرح، ولكن إذا كان معلن الهوية المطالب بها لا يريد الخضوع لمتطلباتها واستحقاقاتها، فلماذا يريدها؟ لماذا يتعب كل هذا التعب ويغضب كل هذا الغضب من أجل الإعتراف بها؟ فلينعم بأنهار الدماء التي تنتجها هويته البتراء، وليتوقف عن النقيق والشكوى من الآخرين من الذين لا يباركون له تخلفه أو من الذين يستثمرون هذا التخلف. إذ لا تحتاج هوية المتخلف الى إعلان أو تعميم، فهي تدل على نفسها بمواصفاتها غير الصالحة للعصر وثقافته.

بلا شك أن سؤال (من نحن) سؤال خطير وواجب وضروري ولكن كي  نجيب عليه، علينا أن نبحث في مفاهيم العصر ونتبناها وننخرط بها، وبلا شك أيضاً أن للتاريخ والتراث نصيبهما من الاحترام والتبجيل، ولكنهما لا يصنعان هوية حتى لو استمددنا منهما بعض المآثر والفخارات المعنوية، ولكننا الآن في هذا الكويكب من المجموعة الشمسية من مجرة درب التبانة، إننا الآن اليوم ذي 24 ساعة التي تشكل عمر الإنسان الذي يسعى كي يكون سعيداً خلاله، ويشقى ويتعب كي يكون ذو كرامة مقدسة تستحق أن يبذل عمره في التعب والعمل من أجلها، إننا في الدنيا أيها القوم، والهوية هي إعلان إلى الآخرين أننا موجودون ويجب عليهم حسباننا في عداد الهويات الموجودة، في كل الأحوال هذا الأمر متحقق حكما، ولكن كيف  هذه (الكيف) الرجيمة التي لا تعترف بها هذه (الكنا) ونريد أن نبقى كما كنا  ! ……… هو ذا السؤال الحداثي يطرق الباب مرة أخرى، كيف ؟؟؟

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن نجيب نصير

نجيب نصير
كاتب وسيناريست سوري عريق، كتب العديد من المسلسلات السورية التي لاقت إقبالاً كبيراً، تمتاز أعماله بطابع خاص، ومن أبرزها: نساء صغيرات، أسرار المدينة، الانتظار، تشيللو، فوضى، أيامنا الحلوة، وغيرها.

شاهد أيضاً

التفاهة المقنعة

للناظر إلى برامج المنوعات التلفزيونية العربية (الأنترتيمنت)، حق إبداء الرأي فيها، ومن أهم مظاهر هذا …