“كانوا أحياءً وتحدثوا معي”
تجسد المكتبات الذاكرة الفردية والجمعية للمعرفة البشرية، لكنها أعمق من هذا بالنسبة لمن يمتلكها، رآها ألبرتو مانغويل جزيرة، وورشة عمل، ووسيلة بقاء، وطيف في كتابه: “المكتبة في الليل”، الكتاب الذي أفرده لمجد المكتبة، أما هنري ميلر فسمّى فصلاً كاملاً من كتابه الشهير “الكتب في حياتي” بعنوان: “كانوا أحياءً وتحدثوا معي”، تحدث فيه عن علاقته الحميمة بفعل القراءة وماهية الكتب.
يا ترى كيف ستصبح إحصائيات الشهداء والمفقودين في سورية لو أضفنا إليها أرواح الكتب التي حرقت نتيجة القصف والقذائف، الكتب التي سرقت من بيوت مهجورة ووضعت في تنكة زيت فارغة، وأضرمت النار فيها للتدفئة، الكتب التراثية النفيسة التي هُرّبت خارج البلاد، وبيعت بصفقات مشبوهة، الكتب الموجودة تحت الأنقاض، وما زالت تستغيث لإنقاذها، الكتب الوحيدة المحاصرة في مناطق الاشتباكات، ولا مبادرة إنسانية واحدة تساعدها على النجاة؟!
امتلكت حلب تاريخاً عتيقاً مع المكتبات مثل أي مركز حضاري، وتعرضت مكتباتها القديمة لويلات الحروب، ووثقت ذلك كتب عديدة مثل “تاريخ الإسلام” للذهبي، و”نهر الذهب في تاريخ حلب” للغزي، فقد أحرق الإمبراطور البيزنطي نقفور فوكاس مكتبة سيف الدولة الحمداني في عام 962م، وأُحرِقت الكتب عندما اجتاح المغول حلب بقيادة هولاكو في عام 1260م، كما أُحرِقت عندما اجتاحها التتار بقيادة تيمورلنك في عام 1400م، وما بقي من مكتباتها القديمة جمع معظمه في المكتبة الوقفية في حلب القديمة، والتي أُحرِقت بدورها نتيجة الحرب المشتعلة في المدينة، ونُهِب ما بقي من مخطوطاتها فبات مصيرها مجهولاً، أما دار الكتب الوطنية الواقعة في منطقة باب الفرج أمام الساعة الشهيرة -والتي أشرف عليها كبار المثقفين في حلب مثل: محمد راغب الطباخ، وسامي الكيالي، وعمر أبو ريشة، وعلي الزيبق- فهي الآن على خط التماس في الاشتباكات، والكتب فيها مهجورة، وبانتظار أقدارها، كذلك الأمر بالنسبة للمراكز الثقافية في شرق حلب وريفها، ولعل مكتبات جامعة حلب من المكتبات القليلة التي ما تزال تعمل حتى الآن.
المكتبات الخاصة لا تقل أهمية عن المكتبات سالفة الذكر، كذلك مكتبات المثقفين في حلب، وإن تحدثت الكتب المعنية بتأريخ المظاهر الثقافية في القرن التاسع عشر في حلب مثل: “الحركة الفكرية في حلب” لعائشة دباغ و”الحياة الفكرية في حلب” لفريد جحا عن مكتبات قسطاكي الحمصي، وجرجس شلحت، وجبرائيل دلال، ومحمود أفندي الجزّار، وغيرهم، يحق لنا الآن التساؤل عن مصير مكتبات عبد الله يوركي حلاق، ونعيم اليافي، ومحمود فاخوري، وعبد الوهاب صابوني، ومحمد قجة، وصلاح كزارة، وآخرين.
لقد أجبرتنا ظروف الحرب إلى مغادرة منزلنا لأكثر من مرة، كنت أتساءل بغصّة كلما أغلقنا الباب: “طيب وكتبي؟” وعندما قررت مغادرة سورية -بعد أن استحالت الحياة في حلب، وبات السكن في بيت على خط النار ضرباً من الجنون- رأيت أن من واجبي القيام بأمرين: الأول أن أسافر إلى دمشق لأودعها، والثاني أن أهرب كتبي إليها، قلت لنفسي إنني عاجزة تماماً عن حماية أرواح المدنيين في سورية، لكنني على الأقل يجب أن أحمي أرواح الكتب التي اقتنيتها، فأنا فعلياً المسؤولة الوحيدة عنها، ولا أستطيع أن أدير ظهري لأطفالي بهذه البساطة وأمضي، هاجرت إلى أوروبا فعلاً، وركبت قارباً مطاطياً لم يسمح لي أن أحمل معي وأنا في داخله أكثر من حقيبة صغيرة، لكنني نقلت كتبي إلى مكان آمن نسبياً مقارنةً بالمكان الذي كانت فيه، وكان هذا أقصى ما أستطيع فعله.
في الرحلة الطويلة من حلب إلى دمشق، والتي استغرقت أكثر من عشر ساعات، تحمّل الركاب عناء ساعتين إضافيتين بسبب كتبي، حيث يتم استدعائي عند كل حاجز ـ وبيدي بكرة كبيرة من اللاصق وسط عيون المسافرين التي تقدح غضباً:
“حاجز1: شو في بهالخمسة وعشرين كرتونة يا آنسة؟
– كتبي
– في حدا بيقرأ هالأيام، رح أفتح وأتأكد.
حاجز 2: شو في بكل هالكراتين يا خانم؟
– كتبي
– هلأ بدك تقنعيني إنه عندك كل هالكتب، أساساً أنت صغيرة، ومضطر أتأكد من كلامك.
حاجز 3 : شو في بالكراتين بالله؟
– كتبي
– ومكترة غلبة وبدك تنقليهم على الشام، رح افتح الكراتين.
حاجز 4: شو في بقلب الكراتين يا حلوة؟
– كتبي
– طيب مو حرام هالعيون يتعبوا بالقراءة، بدنا نتأكد يا غالية.
حاجز 25 : شو في…”
ثلاثة حواجز كانت مثقفة بالفعل، وطلبت مني أخذ بعض الروايات ودواوين الشعر على سبيل الاستعارة!
عندما وصلنا إلى دمشق شعرت بأن كتبي سعيدة بفرصة النجاة هذه، وأنها ستتجاوز بشجاعة أيام الحرب القاسية التي اختبرتها، وتتجاوزني أنا أيضاً:
“في دمشق/ ينام الغريب/ على ظله واقفاً/ مثل مئذنة في سرير الأبد/ لا يحن إلى بلد/ … أو أحد”!
موقع قلم رصاص الثقافي