عامر العبود |
بعد موجة تكريم “الشاعر الكبير” يسر دولي! التي تجنبتُ الحديث عنها بصعوبة بالغة، يطلع علينا الطاعون الأزرق بظاهرة جديدة، ألا وهي؛ تلقف الكلمات من “بوستات” المثقفين، وتحويرها، ثم الإلقاء بها بعد تفسير مآلها إلى الجمهور ذاته، الذي أقام الدنيا ولم يقعدها على خلفية تكريم دولي، ولم “ينطش” لطرد أدونيس من اتحاد الكتاب العرب منذ سنوات، كما لم يفكر باستقالة حنا مينا وسعد الله ونوس من الاتحاد احتجاجاً على طرد أدونيس.
المعضلة تكمن في رغبة متدفقة لدى بعض الأفراد والمؤسسات للقضاء على المثقف العربي، ربما السوري بشكل خاص، حيث يندرج ما حصل مع دولي ضمن استراتيجية جلد المثقف، وكسر ظهره، وتحطيم ساقيه، وأنا لا أتحدث عن التكريم فقط، بل عما تبعه من القيل والقال، لكن ما تعرض له السيناريست السوري د.ممدوح حمادة، أدهى وأمر، حيث اعتذر عبر صفحته على فايسبوك عن قراءة النصوص التي ترسل إليه من الكتّاب الشباب، ليجد أن اعتذاره تحول لاتهام بالغرور والتكبر، بعد تفسير أبعاده النفسية وتوضيح خفاياه!، وكان قد كتب على صفحته (ونورد النص كاملاً لبيان ما جاء عليه من تشويه):
“إلى الأصدقاء كتاب السيناريو الشباب؛ بعد تمنياتي بالنجاح والتألق في المستقبل القريب، أود الاعتذار عن قراءة أية نصوص، بسبب استحالة ذلك، حيث أنه تجمع لدي حتى الآن أكثر من خمسة آلاف صفحة، بينها ما يستحق القراءة والتشجيع والدعم بالتأكيد، وبينها ما يورث الفالج، ولكن لكي تكتشف الغث من السمين، عليك أن تقرأها جميعاً، من ناحية التسويق أنا لا أملك أية علاقات بشركات الانتاج، ولا أتقن هذا الموضوع، وإذا لم يتصل بي أحد ويطلب نصاً؛ فإنني سأبقى دون عمل، إن قراءة هذا الكم من الصفحات التي تتضاعف كل يوم، يحتاج إلى مؤسسة، وأنا عاجز كلياً عن ذلك، وحين يكون لدي وقت للقراءة، فإن لدي برنامج للقراءة أرغب في تحقيقه، ولهذا أرجو من باب المحبة، أن تعفوني من هذه المهمة المقدسة ولكن الصعبة جداً، مع محبتي وأطيب تمنياتي”
تحدث الرجل من منطلق “ورجي عذرك ولا تورجي بخلك”، لكن هناك من ترفّع عن نقاشه بشكل مباشر فيما كتبه، ولجأ لتدبيج مقالة عصماء، هدفها فتح العين الغافلة عن إهانة كبيرة دُسَّت بغرور بين السطور، حيث كتب الصحفي وسام كنعان في جريدة الأخبار يوم الجمعة الماضي، مقالاً جميلاً في بنائه، قبيحاً في مقصده، فبعد استعراضه لتواضع ستانسلافسكي صاحب كتاب إعداد الممثل، شن هجوماً على ممدوح حمادة، على الرغم من الفارق الشاسع بين تدريب الممثل وتدريب الكاتب، فكتب كنعان:
“لكنّه (أي ممدوح حمادة) لم يحصد سوى الخيبة عند أصحاب الخبرة لدى كتابته تعليقاً على صفحته الافتراضية على الفايسبوك يكتنف إهانة غير مباشرة لعدد كبير من الكتّاب الشباب من دون ذكر اسمهم، إذ قال بأنه يترفّع عن قراءة نصوصهم”.
لا ننكر هنا الغرور الذي يصيب من غضبَ الله عليهم بالشهرة، لكن أليس من الإجحاف تضمين أي نص ما لا يتضمنه، فلا أظن أن من يقرأ النص الأصلي سيجد أي إهانةٍ، أو تهكم!، وقد شطب كنعان مطلع النص(إلى الأصدقاء كتاب السيناريو الشباب؛ بعد تمنياتي بالنجاح والتألق في المستقبل القريب)، بإصرار على تضمين الإهانة في طيات الاعتذار، فحذفَ جملةً من هنا، وأخرى من هناك، ليبدو النص جلفاً كما يريد تصويره، وليبدو الرجل مغروراً كما يريد له أن يكون، كما أضاف كلمة واحدةً قاتلة (يترفّع)، فأصبحت التهمة جاهزة، والمتهم بين خيارين، إما أن تترك عملك وحياتك وتتفرغ للاستشارات الفنية والتقنية مهما بلغ حجمها ونوعها، فضلاً عن تقديم المساعدات في مجال العلاقات العامة، وإما فأنت مغرور ومطرود من خانة “الكتاب المرموقين وأيقونات الفن والأدب والأنبياء والعلماء”، فيضيف كنعان:
“من المؤكّد بأنه حتى أردأ الكتّاب تصلهم نصوص من كتّاب شباب كي يدلوا بآرائهم، ولا فخر لمن يصله نص بما وصله، ولا يصلح هذا المقام للتباهي والاستعراض المجاني الذي يليق بمراهقي السوشال ميديا أكثر من الكتّاب المرموقين. ولن ندخل هنا في تعداد أيقونات الفن والأدب على مرّ التاريخ وصولاً إلى العلماء والأنبياء الذين وهبوا معظم حياتهم لطالبي العلم.”
كما عمل كاتب المقال على إخراج السيناريست والشاعر السوري عدنان العودة من دائرة المرموقين، للتهمة ذاتها، حيث قرر العودة أن ينشر سلسلة من النصائح العامة المتعلقة بكتابة السيناريو على صفحته الشخصية، لأن وقته وأسلوب حياته “كما ذكر على صفحته” لا يسمح له بقراءة كل النصوص التي ترسل إليه، لكن كاتب المقال إياه، نظر إلى الصف المجاني الذي افتتحه العودة باعتباره جريمة أيضاً، تخرجه من الدائرة التي ابتدعها جلادو المثقفين، فضلاً عن كون عدنان العودة أحد القائمين على مشروع “رواق دبي الثقافي” الذي يستقطب عشرات المواهب الشابة من مختلف الدول، وبمختلف اللغات، وهذا أيضاً غرور ربما لم نلاحظه!!.
ولم يكد الصحفي وسام كنعان ينشر مقاله في جريدة الأخبار، حتى رفع الخيزرانة مجدداً في صفحته الشخصية، بصبيانية لا مبرر لها:
“على فكرة من بديهيات الواجب المهني والضمير الأخلاقي لأي حدا مهم أو مشهور أو مكرّس إنو يجرّب يدعم أي حدا عم يحط رجلو على بداية الطريق، ولن يزيدك أية أهمية أو قيمة إنك تخبرنا على العلن بحجم النصوص المعروضة عليك لقراءتها وأنك مانك فاضي .. لهيك بتمنى من هالكم كاتب الأساطير يريحونا من موضة أنو ماني فاضي اقرأ لكتّاب شباب… ترى بعد شوي رح نطالبك بالوثائق لكلامك من وين بدّك تلم نصوص بقى؟!!!”
هذه محاكمة على جرم لم يُرتكب، ومحاولة لوضع الكتّاب في نفس المواجهات التي تخوضها فنانات (الهشتك بشتك) مع تهمة شراء المعجبين، وافتعال الفضائح، لكن المشكلة ليست إن كان ممدوح حمادة مغروراً أم متواضعاً، فللرجل متابعوه الذين يعرفون حقيقة أمره، وأنا أحتفظ بمعرفتي لنفسي، كما أنَّ المسألة ليست إن كان عدنان العودة متكبراً أم لا، فأبواب طلب العلم إن أغلقها واحد بتكبره، فتحها آخر بشغفه، لكن المعضلة تختبئ خلف أمرين اثنين، أولهما في الاجتزاء بمقص ظالم، ثم التأويل والتضمين، فالاتهام، أي تفصيل التهمة لتتناسب ومقاس المتهم، أما الثاني فهو أنَّ حركةً مشبوهة، تتعاظم يوماً بعد يوم، تجلد المثقفين عن قصد أو عن غير قصد، إما بتشويه شخصيتهم الاعتبارية أمام الجمهور، أو بتشويه الوسط الذي ينتمون إليه، كما يحدث بتكريم الأقزام، وتوريط عشرات المؤسسات بهذا التكريم، ليتضح أن التكريم (تبويس شوارب) بين شخصين، والسلام.
لا تخرج هذه الحادثة عن سياق سيجارة يوسف زيدان، التي حازت شهرة تفوق شهرة روايته (عزازيل) لكثرة المزايدين، كما لا تخرج عن سكوت الجلادين عن محاكمة سيد القمني، لنجد أنفسنا أمام استغلال علني لكل كلمة تقال، ولكل حركة تصدر، فيتم تأطيرها بسرعة الضوء ضمن صيغة بشعة، يتم هضمها واجترارها، مشوهةً لا تحمل من الحقيقة شيء، وربما ينتهي هذا الحال، بالوصول إلى حالة المثقف (الرقاصة)، المتفرغ لصور السيلفي، والذي سيقول لكل من يستشيره (أحسنت… رائع) لأنه إن لم يعجبه النص صار وقحاً متكبراً، وإن اعتذر جلدوه، وإن تفرغ للقراءة مات من الجوع، أو من الفالج!.
كاتب سوري | خاص موقع قلم رصاص