أهبط من باص النقل الداخلي “هرشو” خط السومرية/ عباسيين الذي كان يدعى في مرحلة ما من تاريخنا العتيد “جوبر مزة أوتوستراد” قبل أن تتحول الكلمة الأولى في اسم الخط إلى طبقة من رماد مفروش على جمر يعسّ على مهل.
أفتح مظلتي القديمة، أكره المظلات، وأكره الأمطار خاصة من المنظور الرومانسي، لكنني تقبّلتها اليوم من أجل خاطر ارتفاع “منسوب مياهنا الجوفية”.. أو هكذا فكرت وأنا أدوس في بركة ماء أسود.
لم أكن انظر إلى أعلى. رأيت أحذية تحمل أصحابها وتركض بهم، مصنوعة من مشمّع رخيص ونعل سيء، رغم أن أسعارها في السوق اليوم تعادل راتب موظف.. 15 ألف سعر حذاء… زمن يَعوجّ بالتقادم سيراً إلى الأمام.. شعب حافٍ اعتاد انتعال الشحاطات البلاستيكية صيفاً شتاءاً وإن خبّأ قدميه في حذاء فستكونان مبلولتين، بجوارب ممزقة، هكذا نحن… وخاصة اليوم.
أطلّ على بردى الكئيب من فوق جسر الرئيس، مازال كما كان في ذاكرتي على الأقل. (يسرسب) دون أن يرتفع منسوبه سنتيمتراً واحداً رغم كل هذا الماء.
أدور في ساحة النجمة، أسأل المارة عن كافيه Mood لكن لا أحد يعرف مكانه.
استوقفت شاباً فقال أنه يعرف مكان هذا الكافيه في حمص، لا أعرف لم سألته عن مكانه فشرح لي بالتفصيل باسماً، واستمعت بتركيز على خلاف عادتي، ثم اعتذر أنه لا يعرف Mood الدمشقي.
وهنا رأيت قوس قزح…. حقيقي.
توقفت.. إنه حقيقي بالفعل.. ينتصب خلف فندق الشام ويغرز طرفه الآخر في السماء كجسر عبور للمُهجّرين إلى هناك.. لكن ملون.
رجل يصف سيارته بالجوار، أسأله فيجيب بالنفي، يقترب رفيقه وما أن يسمع السؤال حتى يجيب:
– إيه هاد ديسكو..
مذهولة بالكامل في الساعة الثالثة ظهراً والمطر يبللني من أعلى رأسي لأسفل قدميّ الباردتين وجواربي المبلولة في حذائي المبتلّ:
– أيواه!!
وحين يرى التعبير على وجهي يجيب باسماً..
– اليوم التلاتا ما هيك؟ في فلم..
أومئ برأسي إيجاباً وأنا أفكر بمدى استعدادي النفسي للذهاب إلى بار في وضح الظهر لحضور فلم.
وجدته.. لم يكن صعباً الاستدلال عليه لكنني لسبب ما كنت أدور وأدور حوله.
أنزل الدرجات وأغرق في (ظلام دامس)، دخان السجائر ورائحة الكحول في كؤوس تحملها في اياديهن بنات في العشرينات حضرن (لمشاهدة الفلم). مددت أصبعي فلم اره ضمن أجواء المثقفين هذه، وراقبت، الممثلون يجاملون المخرجين والكتّاب، يوزعون الابتسامات الكاذبة، ويأخذون ثاراتهم الصغيرة من زملائهم في الوسط الفني، فلان لا يسلم على فلان، وفلان آخر يتجاهل فلان، وفلان ثالث يتمسّح بفلان بمقدار مصلحته.
ماذا أفعل هنا بين زملائي هؤلاء؟
حتى الكحول لا أشربه.. لكنني أحضر فلم “المهاجران”.
***
خرجت وكان الظلام يلف دمشق.
سلكت طريقي الاعتيادي ليلاً هذه المرة، كم كانت دمشق جميلة ليلاً فيما مضى.. ليس بالماضي البعيد.
مارّة قلّة.. ودمشق لك وحدك.. أو هكذا تظن.
أكره جسور المشاة، تثير التحرش وخاصة في الظلام. أصعد الدرجات المعدنية اللزجة الزلقة متسلحة ببيل القداحة وأنا أدعو لدولة الصين الشقيقة بكل ما هو خير على هذا الاختراع العبقري، وكأنه صُنع خصيصاً من أجلنا نحن السوريين. أهبط الدرجات عند ما كان يسمى بالسوق العتيق سابقاً.. ما زلت أتذكر دهاليزه.. عالم مختلف تماماً عن الحديقة المُشبّعة برائحة البول التي تحول إليها الآن.
قرب القلعة حيث ينتصب صلاح الدين على حصانه يبدأ باعة البسطات بتغليف بضاعتهم استعداداً ليوم جديد قادم بالنسبة للبعض.. وللبعض الآخر لا.
تعبر شارع النصر سيارتان بالعدد، أما القصر العدلي فيبدو مرتاحاً ظاهرياً من هموم النهار. افكر بالظاهر والباطن والمعلن والمضمر وأنا انظر إليه.. النظارة.. الأختام على اليدين.. الركض من مكتب إلى آخر.. متابعة المحامي.. ومن ثم استقبال من ابتلعه يوماً ولفظه لحسن الحظ.
سوق الحميدية شبه خاو.. الزبال في أفروله البرتقالي يكنس الأرض بمقشة من قصب خشن، عسكريون يتمشون جيئة وذهاباً.. احاول تخزين الصور دون حاجة لكتابتها على ورقة.
بائع الترمس يجر عربته آملاً بإيجاد زبون متأخر، التجار يغلقون دكاكينهم ويرفعون البضاعة إلى الداخل… عناقيد من الشحاطات الملونة تزين إحدى الواجهات.
تبدو التفاصيل أكثر حدّة وسط الفراغ والصمت.
لافتة قماشية تعترض السقف المعدني بثقوب نجومه النهارية: “كرمال سوريا كفانا دماراً وخراب” مذيلة بتوقيع “أبو رضا” باللون البرتقالي الفوسفوري، خلفها يرفرف علمنا عالياً، وخلف العلم صورة للرئيس.
باب الاموي مغلق في وجهي لكن بائع عصير الرمان ما يزال صامداً في المكان والبرد.. ومن خلف الأموي يطلّ قمر بدر أصفر.. لم أر فيه رغيفاً.. بل مصاصة سكر صفراء على عصا.. نُخرجها من فمنا حين كنا أطفالاً ونمدّها عالياً نحو الشمس لنراها تضيء بالنور، ثم نعيدها إلى أن تصغر وتصغر وتذوب.
10 كانون الأول 2014
موقع قلم رصاص الثقافي