لا يبدو العالم مفهوماً بالنسبة لنا نحن القاطنين في جنوب هذه البحيرة التي تسمى جزافاً بالبحر المتوسط، الذي لم نرض به وسيطاً على الرغم من كل التسهيلات التواصلية التي قدمها، خصوصاً من ينطق باللغات العربية المتعددة من اللذين اعتبروه حداً بين فسطاطين محتفظين بحقهم بتبني “المفهوم الفلسفي” الخارق (عيني فيه وتفو عليه) الذي يمثل قمة من قمم الذرائعية الفهلوية في الثقافة العامة المتداولة، حيث تدعوا هذه السكانيات العالم كله ليفهمها معتبرة نفسها البديل الكامن لكل هذه “الجلعصات” التفكيرية التي يقدم عليها هؤلاء المنعمون البطرانون .
مع هذا يبدو أن التفكيريين العرب زادوا من أحمال كواهلهم بمحاولتهم فهم العالم، كإستزادة معرفية غير ضرورية على أية حال، فالمعرفة هي علم قابل للنقد وهم غير قابلين به، ومع هذا يغامرون “بثقلهم” التفكيري في خوض غمار التجربة مشترطين على العالم استيعاب حكمهم وتنفيذ وصفاتهم.
فهم العالم ليس ترفاً ثقافوياً يهدف إلى تخريب البنية الثقافية المستقرة لدى الشعوب “المظلومة”، وفهمه ليس استعارات أيديولوجية أو مفاهيمية تثير حساسيات الإكتمال المعرفي، بل هو إعتراف بالمشاركة فيه، فعندما قدم ابن رشد وابن الهيثم والكندي والإدريسي والخوارزمي وغيرهم مشاركتهم لم يرفضها أحد وكانت مفيدة للبشرية جمعاء(على الرغم من انتشار دعوى بين ظهرانينا حاليا أن العالم يأخذ منهم المعرفة ويكرههم ولم يعترف بهم، وهذه إحدى قمم فهم العالم أيضا !!) على الرغم من أن المعرفة في كافة مناحيها شأن متغير لا يمكنه الثبات على الرغم من أن علاقة مراحله ببعضها، تشبه علاقة درجات السلم، فالأخيرة هي المهمة الآن وستصبح ماضية أو ما قبل الأخيرة خلال فترة وجيزة قياساً إلى سرعة التطور في العصر، وبالتالي فإن فهمنا للعالم مرتبط باستيعاب هذه العلاقة، والتمترس والوقوف على درجة سابقة اختيارا أو اجبارا لا يمثل أي نوع من أنواع الحرية، ولا أي نوع من أنواع النضال، إنه نوع من النكاية العنيدة في تمثل خلاب “للمفهوم الفلسفي” المحلي الصنع (جكارة بالطهارة) لقد شاركنا بمنتجاتنا في فهم العالم وترويض الطبيعة لخدمة الإنسان سابقاً واليوم علينا مشاركة هذا العالم معرفيا بما وصل اليه.
في محاولة فهم العالم تمترس الكثيرون ضد المنجز التفكيري البشري، فصدرت المنشورات وتراكمت المقالات، وكثرت المشاريع (الأبسمية!) وهي موجودة ومتداولة، تتلخص جميعها (إلا ما قل ودل وحورب) في محاولة دحض هذه “الإفتراءات ” التي أنجزها المجهود التفكيري البشري، فتفرغ “الشباب” لإنتقاد الإستشراق كإختصاص جليل ومؤثر، وتفرغ آخرون في إكتشاف ماهية العقل العربي كإختصاص يستطيع هضم كانط وفوكو وشبنغلر وشوبنهاور وماركس بوجبة واحدة، مشترطين عدم نعرضهم للنقد أو الإنتقاد، كما تفرغ آخرون لإنتقاء ما يفيدنا من المنجز التفكيري العالمي وقبوله ورفض ما لا يناسبنا وتثريبه، وعلى الرغم من أن هذه الفئة اختلفت فيما بينها أيما اختلاف، ولكنها أجمعت أن هؤلاء من منتجي هذه الأفكار يكتنفهم نقص عظيم، فمنتجاتهم هم لم تلبث حتى تعرضت للنقد والتصحيح من لدنهم، وها هم يهاجم كل منهم من سبقه بنقد يثبت خطأ ما تم إنتاجه ويا للفضيحة إنهم يريدون إطعامنا طبخة مسممة!!، أما آخر نشطاء فهم العالم فهم هؤلاء الذين نتجوا عن المذكورين قبلهم وكتلامذة لهم، فقد فهموا العالم كموضوع للإبادة، حسب “المفهوم الفلسفي” الدارج (البدء على نظافة) فالنظافة ضرورية لعيش الشعوب.
أن نفهم العالم علينا أن نعي أن الأفكار والمعتقدات إنما وجدت لتشريف العالم وفي خدمة الإنسان، وليس العكس، فالإنسان لا يستطيع تشريف أية فكرة أو معتقد إلا بالنقد، علاوة على إلغائه لدورها المرتجى، فالأشخاص (أو الجماعات) الذين تؤثر فيهم فكرة أو معتقد، لا يبقون هم نفسهم نفس الأشخاص (أو الجماعات)، بل أشخاص جدد يحتاجون إلى ما هو مختلف عما أثر فيهم سابقاً، وإلا بقوا يكررون محفوظاتهم الببغائية، محتفلين بإرتقائهم مرة واحدة فقط والى الأبد، وفي كل مرة تخدم فيها الأفكار والمعتقدات الإنسان تضعه على خط الإرتقاء الإيجابي، وفي كل مرة يخدم فيها الإنسان الأفكار والمعتقدات تضعه على سكة الإرتقاء السلبي، فالإنسان يصبح جديداً عندما يتعرض لإشعاع فكرة أو معتقد، ومن البله أن يعرض نفسه لذات الإشعاع مرارا وتكرار للحصول على إرتقاء، حتى لو كان خضوعاً “للمفهوم الفلسفي” الأنواري (التكرار يعلم الحمار) حيث تبدو جدلية تأصيل الحمرنة أهم التعلم أو الفهم.
وفهم العالم يحتاج إلى غاية من هذا الفهم، فلأية غاية يحاول التفكيريون العرب فهم هذا العالم؟ الكي يصلوا إلى نتيجة أن هذا العالم (أي الدنيا مقابل العليا) ما هو إلا معبر للحصول على منافع الفردوس؟ فمهما فكروا وأنجزوا تبقى الغاية المذكورة هي القول الفصل والنهائي، ولهذا تكثر في هذه الإيام ألأبحاث والمنشورات التي تجرم المنتجات التفكيرية في العالم وتتهمها بأخلاقها وترميها بالإنحراف ولكن عن ماذا؟ لا أحد يعرف، فهم لا يمتلكون أنموذجا حياً أو ناجحاً واحداً عن ممارسة أياً من المنتجات التفكيرية المحلية، ومع هذا يدعون فهم العالم أو محاولة فهمه بناء على “المفهوم الفلسفي” ما بعد الحداثي (القرد بعين أمو غزال)…
فيما سبق بعض بضع نماذج من محاولات فهم العالم ، الذي يشكل ضرورة قصوى لكل من ينوي العيش والاستمرار فيه، هذا الفهم الضروري، لا يترك للمقصر فيه وليس لرافضه فقط، إلا طريقين لا ثالث لهما هما النهضة أو الفناء وهما ليستا على قدم المساواة فالفناء يشفي الصدور بأسرع وأسهل من النهضة وشروطها المخلة بالحياء العام، لنقف وجها لوجه مع نظرية جرير الذي استقرأه شاعر قصيدة له يساله رأيه، فرد عليه جرير (الشعراء ثلاثة شاعر وشويعر وابن قحبة ،أما أنا عن نفسي فشويعر، وأقتسم أنت الباقي مع أمرؤ القيس). فيا أيها التفكيريون العرب، يا من آليتم على أنفسكم فهم العالم وإفهامنا إياه، أرجو منكم أن تتقاسموا المجد مع “ليونيل مسي”.
مجلة قلم رصاص الثقافية