“سيلفي ضائع مع قلعة حلب”
صنفت اليونسكو مدينة حلب بأنها أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، واعتبرت أسواقها كذلك من أقدم الأسواق الباقية، أما قلعتها فعدت من أهم المعالم الأثرية، ليس لكونها من أقدم وأكبر القلاع في العالم فحسب بل لموقعها الفريد في قلب المدينة، وبذلك لم تكن مجرد مكان أثري ناءٍ يرتاده السيّاح، بقدر ما كانت حالة وجدانية يومية بالنسبة لي وللكثير من السكان.
عادت هذه المدينة السورية _التي ولدت وعشت فيها لأكثر من أربع وعشرين سنة_ لتدخل التاريخ الحديث من أوسع أبوابه، وتصدرت نشرات الأخبار هذه المرة بعد أن أصبحت من أخطر الأمكنة للعيش بالعالم، ومن أكثر المدن المنكوبة في التاريخ الحديث لتقف جنباً إلى جنب مع هيروشيما اليابانية، نزحت من منزلي فيها ورحلت مثل الكثيرين من سكان هذه المدينة بعد أن استحالت الحياة فيها ، ليستقر بي المطاف في الشمال الأوروبي البارد، ولأن عراقة المكان الذي نسكن فيه تنتقل تلقائياً إلى عروقنا أعلم تماماً أن الآلام التي تجري في عروقي الآن هي آلام المكان في حلب، فرضية أسقطها الفيلسوف الفرنسي غاستون بلاشلار عندما تحدث طويلاً عن جماليات المكان، لكن حلب القديمة فرضية مبرهنة أساساً ولا مفر من كتابتها..
بقي لحلب القديمة من أبوابها التسعة خمسة أبواب تعد المدخل لبيوتها وأسواقها الأثرية التي يبلغ عددها سبعة وثلاثين سوقاً، تشكل بذاتها جغرافيا عصية على أن تمنحك نفسها بسهولة، وحالة عمرانية فريدة أشبه بمتاهة ممتدة لأكثر من 15 كلم، فإن دخلت من أحد الأبواب شرق حلب ستقودك الحارات المتشعبة ربما إلى أحد الأبواب شمالها، وعندما تمشي في الأزقة الضيقة والمسقوفة ستشم قطعاً رائحة التاريخ، رائحة سيعجز عن تفسيرها حتى جان باتيست غرونوي بطل رواية العطر، الذي ربما لو زار سوق التوابل والعطارة سيضيف إلى رصيده الغني رائحة حجر البيلون والدريرة و الشبة وهي أشياء عتيقة خاصة بحلب ربما لا يعرفها العالم بأسره!
كنت أستغني عن مغامرة الأسواق أحياناً وأجلس مع أصدقائي في المقهى المقابل لقلعة حلب وأمامي كأس من شراب اللوز الحلبي ،فأتخفف من أعباء الدراسة الجامعية وأسمع القدود الحلبية وأنا أنظر إلى القلعة وهي شامخة بكل هيبتها أمامي وأقول في نفسي أن الأقدار القاسية التي هجرت أجدادي من فلسطين وحرمتني من رؤية مدينتي حيفا ربتت على كتفي عندما جعلتهم يستقرون في حلب لقناعتي أن من لم يمر فيها لديه ثقب في حضارته الإنسانية أشبه بثقب الأوزون مع أنني اكتشفت لاحقاً أن هذا الثقب الحضاري أرحم بكثير من ثقب الهجرة منها إلى مكان آخر!
محي هذا المقهى بشكل كلي بعد القصف،وتضررت الواجهة الأمامية للقلعة وبعض الأجزاء من سورها أثر الصراع المشتعل أما أسواق حلب القديمة فتم إحراقها ونهبها بالكامل، كما دمرت معظم البيوت القديمة والخانات والمدارس، وفجرت مئذنة الجامع الأموي الكبير وتمت سرقة منبره ونهبت معظم المخطوطات النادرة فيه وأصبحت المدينة القديمة في حلب أثراً بعد عين، وطالها الجزء الأكبر من الدمار ذلك لأنها بقيت منطقة تماس في معركة حلب التي بدأت قبل أكثر من أربع سنوات ومازالت مستمرة حتى هذه اللحظة، ولم تخضع هذه المنطقة لسيطرة أي طرف من الأطراف المتنازعة عليها بشكل مطلق، فظلت أوضاعها الأسوأ أمنياً ، في حين أن المناطق الأخرى في حلب الشرقية أو الغربية خضعت لسيطرة طرف من الأطراف وبذلك صارت حلب أشبه ببرلين العاصمة الألمانية في زمن مضى وفيها معبر فاصل بين طرفيها يشبه جدار برلين ، مع ذلك حاول الناس البقاء في منازلهم سواء في الشرق أم في الغرب ومحاولة التأقلم مع كل الموت المجاني والجنون المحيط بهم إلا أنهم لا يستطيعون الوصول إلى المنطقة الأخطر في هذا القتال: المدينة القديمة!
لم تكن صور السلفي قد انتشرت بهذه الكثافة قبل بدء الحرب في سورية كما هي منتشرة الآن، ولم تكن ثورة الاتصالات قد أطبقت بأعناقنا حتى تحولنا إلى كائنات رقمية تعيش داخل الافتراض والبيانات الرقمية، كل ما كنت أمتلكه مثلاً في أيام دراستي الجامعة هاتفا نقالا من طراز قديم ليس فيه كاميرا، وبذلك لم أوثق أياً من زياراتي إلى أسواق حلب القديمة أو ألتقط صوراً لرحلاتي داخل القلعة، بل لم ألتقط صورة سلفي تظهر فيها قلعة حلب ورائي كما هو المفترض من شخص عاش عمره كله في حلب، ربما لأن ما جرى كان عصياً على أن يتخيله أي إنسان في هذه البشرية جمعاء فلم أكن مهووسة بالتوثيق فالأيام من وجهة نظري قادمة ووفيرة ،وعندما فاقت الحرب التوقعات وقررت الهجرة أرقني الموضوع كثيراً ولم أرد مغادرة حلب دون أن أوثق كل زاوية أثرية فيها، اتصلت فعلاً بالكثير من الأصدقاء، وكان سؤالي دائماً: كيف يمكن أن أصل إلى حلب القديمة لألتقط فيها صوراً تذكارية قبل أن أسافر؟ لم يأخذ أحد من الأصدقاء سؤالي على محمل الجد ليس لاستحالة الوصول إلى ذلك المكان فحسب بل لأن المناطق التي في ذاكرتي تم تدميرها على أرض الواقع وكان الجواب دائماً: إلى ماما ميركل ولا تلتفتي وراءك!
بعد إلحاحي على صديقة تعرف أخبار حلب القديمة جيداً لأن منزل جدها الأثري هناك قالت لي: ستلتقطين هذه السلفي العظيمة بعد أن تقومي بإنزال مظلي من هليكوبتر بالتراضي مع كل الأطراف! قالت عبارتها و شادي جميل -المطرب الحلبي- يدق في رأسي عبارته الشهيرة في رثاء حلب “عمرين لو عشت أبكيك”!
موقع قلم رصاص الثقافي