عبدالله الحيمر |
تبقى السينما الوثائقية المتن الذي نطرح من خلاله الأسئلة بحفر أركيولوجي في ذاكرة التاريخ. لنستبصر ونستكشف رموزنا الدينية والثقافية بشفافية، تتيح لنا رؤية نستمد منها جرأة كبيرة لتغيير السلطة والعقليات لإرساء مجتمع الديمقراطية والحداثة في الوطن العربي.
من هنا تولد الحوار السينمائي مع المخرجة التونسية إيمان بن حسين، حول الفيلم الوثائقي التونسي والعربي وعن رسالة فيلمها الوثائقي الأخير:
■ تقولين في حوار لك: «تاريخنا المعاصر كتبه محمد الصباح وغيره من المسؤولين الحزبيين وفيه الكثير من المغالطات، وعلينا تناوله فنيا من جديد والبحث فى المغالطات المنتشرة بين سطوره». كيف قدمت قراءة الذاكرة التاريخية الدينية في فيلمك؟
إن إعادة صياغة التاريخ بعيون حقيقية محايدة بعيدا عن صياغته السابقة، وفي ظل وجود أذناب وأقطاب ما تزال تتخفى بيننا بنفوذها، أصعب كثيرا من كتابة تاريخ جديد وحديث مبني على احترام الرأي والرأي الآخر، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة في الممارسات السياسية. وتقليب صفحات التاريخ وإيجاد ثغرات وتجاوزات الأنظمة البائدة أمر ليس باليسير إنما الرغبة في إيجاد الحقيقية أيضا أمر مهم.
من خلال مجموعة من المعطيات والرغبات في إيجاد قصة حقيقية تصنع للمتلقي ذاكرة جديدة يحتفظ من خلالها بالوقائع كما هي، كان الهدف الرئيس لأعمالي، وما قمت به مؤخرا مع وثائقي الطاهر بن عاشور من دون مواربة أو تزييف، لأضع أمام المشاهد حقيقة مجردة يستنتج منها ويقارن الماضي بصورة الحاضر، ويعمل على إحداث المقارنة بعد أن تكشفت أمامه مختلف الحقائق. استطعت أن أصل إلى ما أهدف إليه وما أرغب في صناعته وتقديمه مع فريق عملي، الجدلية التي أحدثها الفيلم كانت كفيلة بإثبات جرأة النص وقوة المحتوى والمضمون.
وهكذا يجب أن نصنع المقاربة الاجتماعية السياسية ونزيل الأقنعة عن شخصيات مارست علينا لسنوات طويلة الغش والخداع، من حقنا اليوم صياغة التاريخ من جديد وكتابته بحروف حقيقية لتقرأه الأجيال القادمة بكل تجرد.
■ كيف وازنت بين الاتهام والإنصاف في فيلمك الوثائقي لشخصية الشيخ طاهر بن عاشور؟
الشيخ الطاهر بن عاشور شيخ الجامع الأعظم، قدمت فيه ما أهدف إليه في أعمالي الوثائقية، وهو الشخصية الأكثر جدلية في عصره وبين أقرانه، اختلف عليه البعض واتفق آخرون، كان من الصعوبة التعامل مع تلك القامة والشخصية وبالحيادية التي أنشدها وأرغب فيها، كانت هنالك مجموعة من التحديات لمزج السياسة بالدين، والخروج بنص يصنع الفارق للمتابع والمهتم بالتاريخ، وكانت هنالك أقنعة لا بد أن تسقط وآراء سياسية ودينية يجب أن تفضح ويعاد تقديمها ليحاكمها الزمن اليوم، بعد أن استطاعت تمرير ما ترغب.
استحضار شخصية تاريخية من خلال شخوص معاصرين للحديث وإيضاح الجدلية ليس بالسهل، إلا أن الوثائقي مهمته الأولى الكشف عن تلك الزوايا السوداء المظلمة في التاريخ.
■ هل هناك رؤية ثقافية لهذه الشخصية وتقديمها للجمهور في هذه المرحلة الانتقالية من الثورة التونسية؟
بكل تأكيد فما يحدث اليوم من حراك سياسي واجتماعي وخلاف ديني وآراء، تتمازج فيما بينها لإثبات صحتها عن الآخر، لا تبتعد كثيرا في ما كان منظورا من تعاط اجتماعي وديني خلال حقبة الطاهر بن عاشور وآرائه الدينية والسياسية والاجتماعية.
الفترة الانتقالية في تونس التي استطاعت اليوم التغلب على نفسها أكثر من أي دولة عربية وحافظت على مكتسبات الثورة بالشكل المطلوب، تحتاج إلى تصحيح وخطوات أكثر ثباتا، لن نستطيع كتابة تاريخ جديد لتونس إذا إنسلخنا عن ماض وتاريخ لنا كتب بأياد، البعض منها كان شريفا وآخر لوث صفحاته.
■ كيف تعاملت مع الحقائق المخفية بين طيات التاريخ؟
الحقائق معلومة وتحتاج إلى إظهار ومجاهرة بها والتحدث بصوت عال، ومن يستطيع أن يعلق الجرس، من خلال عملي كمخرجة سينمائية وما أقوم به من أعمال في أفلام وثائقية، يجب أن أزيل تلك الأغطية التي وضعت على التاريخ وأعيد صياغته من جديد بعيون الحقيقة وليس غير ذلك.
■ كيف انتصرت للقيم التاريخية للشخصية دينية عن طريق الصورة بين الأرشيف والشهادات الحية؟
كان من الصعب الموازنة بين هذا وذاك لأنها تتعارض ولا تتفق، الشهادات على عصر الطاهر وما قدمه هذا الشيخ لم تتفق والأرشيف، الذي وضعه من رغب بأن يظهر بهذا الشكل وما قمت به هو إعادة صياغة جميع تلك المعطيات من دون أقنعة، خرجت بمنتج سينمائي وثائقي تاريخي أرضى عنه ويوثق باسمي.عملت مع فريق عمل وتابعنا خيوط استطعنا من خلالها نسج حقائق وكشف آراء كان يختبئ شخوص خلفها صانعين للعالم والتاريخ أبطالا من ورق، ما أن اقتربت منهم الحقيقة حتى أحرقتهم وحولتهم إلى رماد. الشهادات الحية تعاملت معها بحيادية تامة وقدمتها من دون أي عمليات تجميل، لأترك الجدل للشارع في صنع المقارنة والنقد، والتعرف على آراء وتوجهات الشخوص المعاصرين، وما حملوه من أرشيف الماضي الذي تلون بفرشاة من رسمه لنا حقيقة كان أم زيفا.
■ كيف كان حيادك في تجربة فن الصدمة في رسالة فيلمك؟
أملك رؤية بصرية في أفلامي أعتمدها في صناعة الحبكة الدرامية لأصل إلى نشوة الصورة التي تصنع للمشاهد تجربة يتعايش معها ويتعمق في التاريخ الماضي بكل هدوء، ليجد شخوصه ورموزه السياسية كيف كانت تتعاطى مع الأحداث وتصطدم بالدين والآراء التي تصنع الخلاف أو الاختلاف. إن البعد الفني في سينما الصدمة يجب أن يتم بناؤه من خلال معطيات وشهادات تعكس حقائق جديدة وصارخة، وليس أسهل من الساسة لكشف آرائهم وتقلباتهم بحسب الأجواء المحيطة بهم، وأن تجد التعاطي الديني كيف يتعامل مع المرحلة ويصنع الأيديولوجية في المجتمع بنمط الحاضر ويزرع تلك التقلبات السياسية والاجتماعية والجدلية في مختلف الأوقات.
■ خطاب الفيلم الآن ما هو: النخبة أم الدين؟
أصبحت النخبة من رجال الدين واختلط الدين بالسياسة واليوم إن لم تستطع المواءمة بين هذا وذاك لن تكون حاضرا في المشهد السينمائي بكل جدليته ومحفزاته. الدين ركن أساسي في المجتمع والنخبة يجب أن تتعامل معها من منطوق ديني واجتماعي يلبي احتياجات المرحلة ويرسم الصورة بشكل أوضح، لا تستطيع الفصل ولن تتمكن من كتابة فصول قصتك السينمائية من دون تقديم وجبة دسمة للنخب والدين والمجتمع. وهنا تكمن أهمية المصداقية في عيون السينما والكاميرا التي تحمل المتلقي والمشاهد إلى عوالم كان يجهلها، أو حقائق يجب أن يعلمها ويتعايش معها ليحترم التاريخ مستقبلنا الذي شوه الساسة صفحاته بماض لا ذنب لنا فيه سوى اننا جزء من تلك اللعبة التي مورست علينا.
* كيف ترين مستقبل الفيلم الوثائقي في تونس والعالم العربي؟
الصورة تتضح أكثر يوما بعد يوم، البعض من الدول العربية غير قادر على رسم المشهد بالشكل المطلوب والبعض سيضع صورة أكثر بياضا ووضوحا من قبل، حالة اللاسلم واللاحرب التي تمر بها السياسات العربية في العديد من الدول تجعلك لا ترسم صورة موحدة للمشهد السينمائي والوثائقي، إلا أن ممارسة ذلك خارج أسوار الوطن للأسف سيكون متاحا بشكل إبداعي أكثر وأقرب للحقيقة.
■ هل استطاع الفيلم الوثائقي العربي أن يكون حاضرا وموثقا للشارع العربي بطموحاته بالحرية والتحرر إبان الربيع العربي؟
لم تغب الأفلام الوثائقية عن المشهد السياسي والاجتماعي في السنوات الماضية، إلا انها كانت وللأسف تفسر أيديولوجية السياسة والتوجهات في ذلك الوقت، بما يخدم مصالح العاملين والمسيطرين على السلطة وأصحاب النفوذ، إضافة إلى كونها كانت توثيقا لمرحلة من المتغيرات الاجتماعية والسياسية مرت بمراحل وحالات مختلفة بحسب تلك المحطات.
اليوم ما تم صنعه وما نتعايش معه ليس متغيرات جذرية بالمعنى المطلق في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية، بل أن ما يحدث في بعض مناطق الثورات أصبح صراعا دينيا سياسيا ومذهبيا في مناطق أخرى، اليوم الصورة أكثر ضبابية من السابق في مناطق مختلفة، والنتائج ليست مضمونة بالمطلق، وتفسير ذلك من خلال الأفلام الوثائقية يتطلب تفسير الحالة الأيديولوجية في المجتمع والتوجهات والإستراتيجيات المقبلة.
الربيع العربي يمر بمرحلة شتاء وصيف وخريف، بات غير مستقر وفي بعض الدول العربية غير آمن، وظهرت على السطح ما رسم وخطط له البعض بالشكل السلبي، ودور الوثائقي الآن التعامل بوسطية مع مرحلة في تاريخنا العربي أكثر ضبابية ومليئة بالتحديات.
ناقد مغربي ـ يُنشر بالاتفاق مع الكاتب
القدس العربي | موقع قلم رصاص