الرئيسية » يوميات رصاص » يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية (16)

يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية (16)

ضيقة بمقدار متر أو يزيد لكن الأبواب على جانبيها قد تخبئ فضاءات مخفية لا تخطر على بال.

أسير قرب الجدار محاولة ضبط خطواتي على أرض جافة قدر الإمكان، لكن برك الماء غدارة خاصة في الظلام.

رجل وابنه يسيران أمامي، وبدل أن ينير الطفل مداس القدمين ببيله الباهت يسلطه على الجدران فيتراقص كانعكاس الشمس على مرآة في يد مشاكس.

قطة تعبر الزقاق الضيق فيسأل أباه:

– شو اسم صوتا للقطة؟

فيجيب: – مِواء.. بابا.. اسمه مِواء..

أتجاوزهما وأنا أفكر هل هو (مِواءٌ) حقاً أم (مُواء).

يرتدّ صدى كعب حذائي بين الجدران.. ترك.. ترك.. ترك..

أدخل من باب الفراديس. بدأت المحلات استعداداتها لليل.

وفد من الحجاج اللبنانيين يخرج من مقام السيدة رقية وسط حراسة أمنية مشددة وشبه استنفار. إنها أربعينية الحسين.

إحدى نساء الفوج تسير بسيجارتها كما عادة اللبنانيات بالتدخين علناً في الطرقات على خلافنا نحن، جميع أمورنا في الخفاء، حتى سجائرنا ندخنها خلسة في مداخل البنايات أو الزوايا المخفية..  أما أن نتجرأ على السير بها!

لكنني أفعلها أحياناً.

 شوارع القيمرية مضاءة ببروجكتورات بيضاء، شجرة نارنج تطل من خلف سور أو جدار.. لا فرق فهو يحجب الداخل عن الخارج.

فتاتان صغيرتان تقفزان أمامي، واحدة في الرابعة وأخرى في السابعة تقريباً تمسك بيد أختها.

حجاباهما الأبيضان مصممان خصيصاً للصغار، مزينان ببكلة على شكل وردة برتقالية، سترة إحداهما وردية اللون. لا أذكر لون السترة الأخرى، أفكر بالحجابين.

يكشف الضوء عن القطرات اللامعة المتعلقة بأوراق الشجر رافضة السقوط، لكن الريح الخفيفة تقنعها بطريقتها لتغير رأيها. أراها تقفز إلى بركة ماء وسط أحجار الطريق السوداء وترتد بهالات من دوائر لا نهائية.

 رائحة الهواء باردة، خضراء، تشبه الأرض.

تمطر من جديد. تتكاثف وتشتد. دوش رباني من السماء وكأن الهيدروفون يعمل على أحسن حال، يا لها من جملة مبتكرة.. هيدروفون.. راوتر.. اينفيرتر.. وما إلى ذلك من ضرورات تعمل على الكهرباء.

أفكر أحياناً ما الجدوى من كتابة هذه اليوميات التي تكرر الشوارع والأمكنة ذاتها مرة تلو مرة تلو مرة.. بعضهم يقول: توثيق.. أما أنا فأظن أنها تمرين على الكتابة، تمرين على تطويع الجملة واكتشاف صورة جديدة يمكن أن تنقل الإحساس والرائحة والصوت معاً، ربما الحرارة أيضاً.

أو طريقة لترويض الخيال على احساس الجميل بعد أن تبلّد بما يشاهده يومياً وما يسمعه.

أجلس قرب نافذة السيرفيس وظهري للسائق، امرأة قربي تغير مكانها قائلة:

– كل حياتنا صايرة بالشقلوب.. حتى الركبة بالشقلوب كمان؟

لا يسلك طريق (المقابر) التقليدي بل يغوص في ظلام طريق معمل الكبريت المتجه نحو المليحة.

لا نور حولنا سوى الـ (ليدّات) المثبتة إلى سقف السيارة. وسط الظلام ينير ضوء بيل من بعيد فيخفف من سرعته إلى أن يتوقف عند حاجز قرب ثكنة عسكرية.. علمنا السوري مشكوك في طبون سيارة.

يسلط بيله علينا واحداً واحداً ويطلب هويات الشباب ثم يأمر أحدهم بالنزول.

ننتظر.. نرى الشاب يجادل العسكري ثم ينضم إليهم ضابط، ويتجادلون.

نراه يعود راكضاً إلينا فنتنفس الصعداء.

– حمد الله على السلامة..

تخرج من أفواه بعض الركاب ويسود جو من المزاح مع انطلاق السيارة. امرأة (الشقلوب) تنصحه بحمل دفتر تأجيل الجيش معه وعدم نسيانه في البيت كما فعل، ثم تسرد حياتها في دير عطية العام الماضي، وبأنهم نبشوا حتى القبور.. فينقلب المزاح إلى تعاطف يكاد يصل حد البكاء.

امسك النافذة المفتوحة بيدي، اتنفس عليها قصداً لتشكل طبقة بخار على زجاج بارد. أتسلى بلصق رؤوس أصابعي على البلور لأترك بصمات لزجة أعيد طباعة بصمات أخرى فوقها وأنا أحدق في الظلام.

سواد يحيط بالمتحلق الجنوبي جهة الدخانية والمليحة، ضوء السيرفيس ينير كوماً من السيارات المحروقة أو المعطلة على الجسر وليس منها سوى الهيكل، ومع التفافه إلى اليمين يغرق ذلك الجزء في فراغ أسود تماماً.

16 كانون الأول 2014

موقع قلم رصاص الثقافي

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

وللمُدُنِ مَذاقاتٌ مُختلفة كما فَاكِهة الجَنّات (3)

3 ـ الإسكندرية.. ويحدث أحياناً.. أن تقع في حُبّ مدينة. لم يكن حبّاً من النظرة …