إبراهيم حسو |
لا يزال السرد الشعري الطويل والقص الحكائي فائضاً عن حاجة قصيدة النثر السورية، دائماً يلعب القص دور الحدث الشعري والسرد دور الفكرة أو المتن الشعري الذي يبنى عليه النص عادة، والسرد والقص يلهبان دائماً اصطخاباً في المحتوى النسقي لبناء النص وخلخلة داخل اللغة أو خارجها، وأحياناً يغدو السرد والقص صوتا النص ولبنات مبناه، طالما ينأى الشعري نفسه عن مجريات وسياقات النص، والتجاء الشاعر قيس مصطفى في مجموعته الأخيرة ( 12/12) إلى إقصاء اللغة من سياقاتها السردية والحكائية كلفّه الكثير من إهراق الدلالات والاستعارات والإشارات والتضادات، ليغدو النص في ملخصه ورشة بلاغية مستحدثة وبحيرة لفظية لكلمات عادية وشائعة ومفردات منضدة باعتناء وأحياناً منسوخة على نحو هندسي تناغمي مثير وجاذب للقراءة أكثر من مرة واحدة، كتابة مصطفى (12/12) خصبة إلى رتبة أنها مغروسة بكل أصباغ الألم الفلسطيني الذي صار ألماً مجازاً وفي متناول الجميع، ألم لا يشاطره إلا من كابده واكتوى به، قيس تثقف من الجراح والوحشة والعودة المستحيلة، الافتنان في احتذاء بالألم، بل أصبح يحاكيه إلى أن صار متماهياً معه ومتنفساً به، كتابة طويلة وسالكة على معيشة قصيرة وضيقة يعيشها الفلسطيني الضائع في مسالك دمشق ويتلبس برودة زواريب حاراتها وأبوابها القديمة، يتحسس الأشياء والحياة بلغة العامة، بكامل تفاصيل عيش ناسها وساكنيها الغرباء، كتابة قيس منشغلة بالأحداث وانقلابات شخصية قلّبّت حياة الشاعر رأساً على عقب، وغيرّت فيه نظرته إلى الشعر نفسه والقارئ الذي يظل يستخبر على طول الكتاب عن جدوى هكذا كتابة وطروحاتها التي قد تبدو للبعض طروحات شخصية وعقوقة، وقد يهيمن عليها ذهن لا يرفع مخططاً إبداعياً هادياً أو حماسة
لشعرية ما بعد الحداثة:
قد تخرجين
أعرف أنك قد تخرجين من أرياف دمشق إلى سدة المدينة
العدم خلا مكانه لكل شيء
هناك مدينة أخرى
وأنا قليل المعرفة والعرفان..
هناك مدينة أخرى
ولست بحاجة إلى الكشف
فدمشق تكشف نفسها وتقول لنسائها إذهبن إلى أحضان توحي بالمخملية.
يُنشئ قيس مصطفى شبكته اللغوية الصغيرة من استعاداته لمخيلته وذاكرته المكانية والزمانية عبر التخلل في عمق التجربة التي افتتحها في مجموعته الأولى (أبحث عنك في الغوغل) عن طريق تجميع التصوير الداخلي للأشياء ودفعه إلى ظاهر الحياة اليومية، حيث الشاعر ذاته في معارضة العالم من مرآة مواجهته بالمشهد الحياتي المعاش وملامسته لها :
أيها المطمئنون
ايها النيام في شقق العتمة والضوء
يا سكان الدروع
أيها الغراب الرشيق الساكن أبدية العالم
المنطلق كطيارة من على مصاطب الاسمنت
غداً يتلاشي ويبقى شعبه وحلمه وتبقى أنت الماكث وحيداً في سديم العالم
غداً يرحل ويبقى ألمه وخطاياه وتذاكر سفره إلى مدن البحر
غداً يرحل وتعيش التكنولوجيا في قلوب الناس.
قيس في ( 12/12) يقدم بالأفضل مسحات سينمائية كما يتراءى للقارئ الفطين، فكل مقطع هو صورة أو مشهد سريع لسيرة إنسان أو شاعر يقاسي من وجوده على أرض لم يكن له ضلع في اختيارها، رجل غير قادر على مماثلة أو استنطاق شعوره نحو التحولات التي تحدث حوله، صوره الشعرية متلاحقة ومصطنعة ثانية بثانية تحت ضربات اللغة الذكية المتواطئة مع المخيلة التي لا تتوقف هي الأخرى بدورها في تزويد المشهد الكمال الشعري الصاف.
شاعر وناقد سوري | خاص مجلة قلم رصاص