الرئيسية » رصاص خشن » فقاقيع الأدب

فقاقيع الأدب

فراس الموسى |  

بينما أحاول لملمة خواطري لأزرع في ضمير الورقة البيضاء كلمةً هنا وأخرى هناك، يسافر في قلبي الألم والحزن كرمحٍ من النحاس المشتعل على ما وصلنا إليه نحن العرب، وفي ظل هذه الحالة المأساوية التي أكلت جسد الوطن العربي أو كادت، والتي يتفنّن فيها العرب في التهام بعضهم البعض بصورة همجية على طريقة القبائل البدائية، يشغل بالي كثيراً ما دوّنه ويدوّنه الأدباء العرب، والمواقف التي يتبنّونها، فيسجّلها التاريخ لهم أو عليهم.

إذا نبشتُ ذاكرتي، فإنني أقول: قد تفتّحت مداركنا نحن عبّادَ الشعر والأدب على شعرٍ كان أغلبه ممجّداً مادحاً لأصحاب السلطة والنفوذ، ملمّعاً لجزمة السلطان، ومرّ الزمن ودار الشعر دورات عديدة حتّى كدنا نظن بأنّ تلك العصور التي كانت فيها الكلمة تشتغل جاريةً في بلاط الخليفة فتلحس رجليه مرّة وتضاجعه مرّات قد ولّت، وأنّ تلك السنين التي كانت القصيدة فيها تنطّ برشاقة حصانٍ من فراش حاكمٍ إلى فراش حاكمٍ آخر مقدمةً له فروض الطاعة قد طوت جناحيها وارتحلت، وأنّ زمان الصعلكة والعيش على فتات الأمراء وفضائلهم وإحسانهم انتهى، ولكنّ ظنوننا كلها لم تكن إلاّ ظنوناً، فها نحن نفاجأ وأيّام الرماد هذه تمرّ بثقلٍ وريثٍ شديدين بصعاليك جدد ورثوا غريزة التبعية والإنصياع، وألبسوا الكلمة ثياب النخاسة، وأرجعوها كما كانت في القرون السالفة جاريةً لا شغل لها سوى الترفيه عن صاحب الجلالة.

 كلّ هذا موجعٌ لا شك، ولكنّ الأكثر إيلاماً أن تتحوّل هذه السلوكيات والممارسات من فعل فردي إلى فعل جماعي منظّم. ما أعنيه هو تحوّل اتحادات ومنظمات ترفع شعار الأدب والثقافة إلى ما يشبه فروعاً أمنيّة وشعب مخابرات تتغنّى بأمير المؤمنين، فتمجّد عصره، وتبجّل أفعاله، وتهزّ له الخصر في فتوحاته المظفّرة، والمدهش أن تغدو مطبوعات هذه المنظّمات ودوريّاتها أشبه بفرمانات وبيانات عسكرية ومراسيم جمهورية!

ما يثير حيرتي أيضاً الإزدواجية التي يمارسها بعض صنّاع الأدب، فأغلب كتّابنا اليوم يستعملون عدّة المكياج إلى جانب أقلامهم ومحابرهم، ويعلّقون في دواليبهم ثياباً تنكريةً يلبسونها حسب مقتضى الحاجة، وطبيعة المناسبة، 

واختلاف المناخ. إن التلوّن الذي يعيشه هذا الكاتب، أو ذاك مربكٌ حقاً، فمثلاً هو ينادي بالحرّية ويصهل ليل نهار متغنيّاً بها، ويقف مع المظلوم منافحاً مدافعاً في مكان ما من هذا العالم، ولكنه في مكان (آخر) وعند التلفّت نحو قضية أخرى يعيد ترتيب سلوكياته ونداءاته، فينقلب على مواقفه المعلنة بشكل دراماتيكي، وكأنّ شيئاً لم يكن!

أكيدٌ أن الكتابة فعل خلاص وتحرّر وانعتاق، وإذا كان هذا هو زمن المكاشفة، فلزامٌ علينا أن نهزّ شجرة الأدب العربي هزّاً كيما تتساقط عنها أوراقها اليابسة الصفراء، وأعتقد أنه يتوجّب على الكاتب -أي كاتب كان- حين يحسّ بأن كريّات الانصياع قد ارتفع تعدادها في دمه، وأنها على وشك الانقضاض على بقية الكريات وإفنائها أن يعتزل صنعة الأدب، ويجد له صنعةً تناسب مهاراته المدجَّنة، فالكاتب الذي يخشى على أصابعه، ويؤمّن عليها ليس سوى سمكةٍ ولدت مسلوبةً من غريزة السباحة.

بكلمة واحدة، الكاتب هو ذلك الحصان البرّي الجامح الذي يرفض كل السروج والألجمة التي تحاول ترويضه، والأدب الحقيقي هو الأدب الذي يمشي عكس السير، أمّا الأدب الكسيح الذي يلبس عباءة الطاعة، والذي يعجز عن تسجيل موقف  شجاع واحد، فأصحابه ليسوا سوى فقاقيع عمرها أقصر من عمر الهنيهة..

شاعر فلسطيني سوري | خاص مجلة قلم رصاص     

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

وحشية

١ ثمة ملاك، أو هذا ما نظنه لأنه يرتدي لباساً أبيض، ينشر حوله هالة نورانية، …