د. ممدوح حمادة |
في الصف الخامس، أُنعم علينا بمدرسٍ كان ضابطاً سُرّح لتوّه من الجيش، تسريحاً تعسفياً، عاملنا معاملة لايمكن وصفها بأنها معاملة الضابط لجنوده، لقد كانت أقرب إلى معاملة المحارب الظافر لأسراه من جيش العدو.
قبل كل شيء كان يحرمنا من الفرصة بين الحصتين، فلم نكن نستطيع أن نشرب، أو نقضي حاجتنا، والويل لك إنْ رفعت إصبعك لطلب الأذن، ولذلك كنا نرضى بما ابتلانا به القدر صاغرين.
في إحدى المرات لم يتمكن رشيد من الاحتمال أكثر؛ فلف ورقةً على شكل (بورية)، وفعلها فيها، ثم جعلها تتكئ على رِجل المقعد، لكي يخرجها بعد انتهاء المحنة اليومية، ولكن البورية انقلبت، وسالت أفعى الماء، لتظهر من تحت المقاعد، ويستقر رأسها عند قدمي الأستاذ، الذي رفع بدوره رأسه باتجاه الطلاب، وفي عينيه نظرةُ مفترسٍ من المفترسات، فشاهد تيسير الذي يجلس خلف رشيد، وقد مد يده، وقلب سبابته، وأخذ يهزها فوق راس رشيد، الذي كانت دهشته كبيرة من قدرات الأستاذ الخارقة في اكتشاف الفاعل، من مجرد نظرة، بعد (القتلة) فقط تمكن من معرفة الحقيقة من كميل، الذي كان يجلس قرب تيسير، ووشى به في أذن رشيد.
الأستاذ أيضا كان لديه عقوبات غريبة، من نمط أن تكتب درس العلوم خمسين مرة، ولذلك كان الجميع يلعبون، ونحن نكتب، وعندما يعود الأخوة، وأبناء مرة، ولذلك كان الجميع يلعبون، ونحن نكتب، وعندما يعود الأخوة، وأبناء الجيران من اللعب، كانوا يساعدوننا في كتابة الدرس، كلٌّ بحسب ما تمليه عليه شهامته من النسخ.
كذلك لم يتوان هذا الأستاذ عن جعلنا نزحف في الوحل، وكثيراً ما نصح أولياء الأمور الذين استدعاهم لسبب ما:
– هذا لا يصلح لشيء، اشترِ له صندوق بويا، وخليه يقعد بساحة السير.
أولياء الأمور لم يكونوا أقل ساديةً منه، فقد كان الجميع يردون بحماس:
– اللحم إلك والعظم إلنا.
وهكذا كانت تسير الأمور.
مرة كتبتُ موضوع تعبير أعجبه كثيراً، لدرجة أنه ذهب إلى الأستاذ حسن في الصف الرابع، وأطلعه على الموضوع متباهياً بي، فما كان من الأستاذ حسن إلا أن أطلعه على موضوعٍ كتبه أحد تلاميذه المجتهدين عن عيد الشجرة، وكان اسم التلميذ جمال، عاد به أستاذنا وجعله يقرأ علينا موضوعه، بنبرة لا تخلو من الغطرسة، والعنجهية، ثم بعد ذلك صفعني الأستاذ بقفا دفتري، ورماه أمامي، وقال بنبرة لا تخلو من الازدراء:
– هكذا تكتب مواضيع التعبير.
أغرب عقوبة تعرضنا لها، كانت حين أخرجنا إلى الساحة، وجعلنا نركع جميعاً، ثم أمرنا بشبك أيدينا خلف رؤوسنا، إلى هنا لم يكن في الأمر غرابة بعد، الغرابة جاءت بعد ذلك بدقيقة تقريباً، حين غاب خلف ظهورنا إلى جهة مجهولة، ولم نكن نملك الجرأة للنظر في إثره، ثم عاد ومعه تلاميذ الصف الأول، وقال ماداً نحونا ذراعه اليمنى، مشيرا بسبابته إلينا :
– بَزّقوا عليهن.
تلاميذ الصف الأول حولوا الأمر الى مهرجان (للتبزيق)، وصار كل منهم يتراجع إلى الخلف، ويستعد كما لو أنه يريد تنفيذ ضربة جزاء، ثم يهجم، ويبصق بأقصى ما يستطيع من قوة، وبأغزر ما أوتي به من لعاب، وفي ذروة السعادة.
لم يكن ذلك الصف هو الخامس، لقد كان فصلا في الجحيم.
كاتب وسيناريست سوري | خاص مجلة قلم رصاص