إن أزمة الثقة بين الجمهور السوري ووسائل الإعلام الرسمية هي أزمة مزمنة، أصبح المواطن يدرك جميع تفاصيلها وأبعادها بينما ما زالت وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها تراوح مكانها، وبات القائمون عليها يبذلون جهداً مُضاعفاً لتحسين تعليب المنتج الإعلامي وإيهام الرأي العام أن هذا المنتج هو الأفضل والأصدق والأكثر جرأة في قول الحقيقة والمجاهرة بها دون خوف أو خشية من بسطار الرقيب الذي لا يدخر جهداً في “دعس” كل حرف أو كلمة غير واضحة المعالم ويُمكن أن يفسرها الجمهور على هواه، إلا أن كل محاولاتهم باءت بالفشل.
انقسام الجمهور
إن كل ما يُعرض في وسائل الإعلام السورية الرسمية والخاصة يخضع لرقابة مشددة، ورغم أن المنطقة العربية بدأت تشهد حراكاً شعبياً لم يعد مهماً إن كان مصدره داخلياً أو خارجياً، كونياً هبط من الفضاء الخارجي أو جوفياً خرج من باطن الأرض، إلا أن تلك الرقابة لم تستفد شيئاً من التجارب التي سبقتها في التعاطي مع ذلك الحراك الجماهيري الشعبي ولم تتقن احتواء غضب الشارع إنما زادت في احتقانه، كما أن الجمهور لم يستفد من تجارب جماهير أخرى، وانساق بطبيعة الحال خلف وسائل إعلام أخرى توّهم ـ وما زال بعضه يعيش وهم ـ أنها تقف إلى جانبه وهدفها أن ينال حريته ويعيش بكرامة، وترك وسائل الإعلام الرسمية للتهكم والسخرية والاستهزاء في أوقات الفراغ فقط إن هو شعر بالملل من متابعة الوسائل الأخرى، وهذا كله لم يساعد في تغيير العقلية القائم عليها فانقسم الجمهور إلى مجموعات كبيرة.
اللغة الخشبية
مجموعة تؤمن بالخطاب الإعلامي الرسمي وتصدقه وتشيد بلغته الخشبية التي أكل عليها الدهر وشرب، بل ويدافعون عنها بوصفها لغة ملتزمة تُمثل الوطن ومن يتبناها هم الوطنيون والشرفاء الذين ما زالوا يطربون لسماع ردح الرفاق عن “ثورة آذار المجيدة” ومكتسباتها التي ما كان ليزدهر الوطن دونها، وما زالوا لا يرون الوطن إلا من خلال برامج أرضنا الخضراء والأيدي الماهرة ومع الطلبة ونحن الشبيبة..
ولا يُمكن لومهم فأغلبية هؤلاء استفادوا من آذار والثورة “المجيدة” وهم حين يدافعون عنها وما رسخته خلال العقود الماضية إنما يدافعون عن مكتسباتهم الشخصية والأسرية، ويدّعون أنهم يدافعون عن مكتسبات الوطن التي أنجزتها “ثورة آذار” لكن الحقيقة أن تلك المكتسبات لم يبقَ منها شيء على أرض الواقع، فالمعامل أغلقت أبوابها والأراضي التي استصلحت أصبحت صحارى قاحلة أو على وشك التصحر، والمنظمات الشعبية والجيش الرديف لم يبقَ منها سوى المقرات المهترئة والعقلية التآمرية التي تُربي الجيل فيها على كتابة التقارير الحزبية، وتشويه الفكر العقائدي العروبي الحقيقي.
سطحية إعلامية
مجموعة ثانية تعتبر كل ما يصدر عن الإعلام الرسمي هو مثار سخرية ويدعمون وجهة نظرهم بتقديم أمثلة حية عن مذيعين ومذيعات، وصحفيين وصحفيات، وضيوف يشاهدونهم بين الفينة والأخرى في مختلف وسائل الإعلام ويحتفظون بالكثير من الأمثلة والشواهد الحية على سخافة هذا الإعلام، فيما مضى كان برنامج “سؤال ع الماشي” الذي قدمه المذيع الراحل مهران يوسف برنامجاً طريفاً وفيه معلومة وجائزة مالية بسيطة يستلمها المواطن الفائز في الشارع دون أن يحتاج إلى رزمة أوراق وعشرات الطوابع والتواقيع، إلا أن هذا لم يستمر وحين قرر القائمون على وسائل الإعلام أن يكونوا عصريين ويواكبوا الحداثة قدموا برنامج “لو فرضنا جدلاً” الذي يقدمه أدونيس شدود الذي كرس برنامجه ليسخر من المواطن السوري، ويقدمه بطريقة ساذجة مُحاولاً إضحاك الجمهور، وكأن المواطن لا تكفيه سخرية القدر والحكومة والبرلمان منه، ماذا لو كانت زوجة أحد هؤلاء الرقابيين هي التي استوقفها المذيع وسألها في الشارع بفجائية:
شو رأيك يرجعو يفتحو السفارة السورية بدمشق؟
وهي تجيب بعفوية: أي حلو كتير يا ريت والله!
هل كان سيضحك بتلك الطريقة التي ضحك بها حين كان يشاهد المواطنين المرهقين نفسياً واجتماعياً ومادياً؟
حتماً لا.
وكذلك برنامج “سلبناها عليكن” الذي عُرض على الفضائية السورية كنوع من “الهضامة” والطرافة التي تعتمد على إضحاك الجمهور على بعض المواطنين الذي يلتقيهم المذيع في الشارع ويسألهم على سبيل المثال:
متى يُعلن نفير أوستاش؟
ويجيب المواطنون بباسطتهم وعفويتهم فهم ما عاد في ذهنهم غير نفير الحرب وهموم التأجيل والخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية وإلى ما هنالك.
طلاق نهائي
مجموعة أخرى تنظر إلى الإعلام السوري على أنه إعلام “أكذب أكذب حتى يصدقك الآخرون”، ولا شك أن معهم كل الحق في ذلك حتى إن اكتفوا بخبر ظهر على القناة الإخبارية السورية يُفيد بنزول “مئات السوريين إلى الشوارع كي يشكروا ربهم على نعمة هطول المطر”.
كانت هذه الحادثة وحدها كفيلة بانعدام الثقة تماماً بين المواطن السوري وإعلامه الرسمي، وأصبح الجمهور يقارن على مساحة الجمهورية العربية السورية بين الواقع الذي يعيشه والخيال الذي يراه في وسائل الإعلام، وهنا أدرك جيداً مدى استخفاف القائمين على تلك الوسائل بعقله ووعيه وكان ذلك بمثابة الطلاق النهائي بين الأغلبية العظمى من الشعب السوري ووسائل الإعلام الرسمية والخاصة، باستثناء المجموعة الأولى التي وإن كان أصحابها يعرفون الحقيقة بداخلهم إلا أنهم يكتمونها في أنفسهم لإيمانهم بأن نهجهم هو الصحيح وإن كان خاطئاً، وهو الصادق وإن كان كاذباً، وهو الأنجح وإن كان فاشلاً.
تنامي الوعي
أما الحقيقة التي يرفض القائمون على وسائل الإعلامية الرسمية والخاصة الاعتراف بها هي تنامي وعي الجمهور بسرعة قياسية ومعرفته العميقة بخفايا إدارة وتصنيع المنتج الإعلامي حتى أن وعي الجمهور أصبح أكبر بكثير من وعي الإعلاميين أنفسهم الذين يظهرون في التلفزيون ويكتبون في الصحف والمواقع، فيدركون أن الصحفي يكذب هنا ويفبرك هناك ويناور بينهما للاحتيال على المشاهد أو القارئ.
لقد بات كل شيء مكشوفاً أمام الجمهور وما كان في الأمس القريب ممكناً ولا يتجاوز التعليق عليه حديثاً عابراً في سهرة عائلية أو في لمة أصدقاء، أضحى اليوم يتداول على الفور في وسائل إعلام شعبوية اسموها افتراضية إلا أنها هي التي أخذت تصنع الواقع كما أراد لها من اخترعوها، فأمست هي المسافة الفاصلة بين الماضي والمستقبل وبتفاعليتها سبقت جميع الوسائل الأخرى، وبغياب الرقابة عنها غدت هي المتنفس الوحيد للجمهور وإن أساء غالبيته استخدامها.
مجلة قلم رصاص الثقافية