الرئيسية » يوميات رصاص » يوميات حرب طائفية أهليّة بمحليّة (17)

يوميات حرب طائفية أهليّة بمحليّة (17)

يرف الحمام بأجنحته ويحرّك الريح ليتجمّع على بروز السطح المغطي للباب الرئيسي المواجه لباب البريد اليوناني.

أدخل وفي أنفي رائحة البخور التي أيقظتني بالأمس من غفوتي.

رأيت نفسي هناك، أجلس متربعة حيث دُفن رأسه وأشمّ رائحة البخور. استيقظت.. ونويت: غداً سأزور الأموي لأصلي صلاة الغائب.. صلاة للغائبين عن هذا الفجر بذراته المتجمدة في الهواء.

أدوس بقدمي الحافيتين على أرض الأموي الرخامية الدافئة رغم بقايا الثلج الذي يغطي باحته. الماء يقطر من السقف بإيقاع متسارع كلحنٍ يكسر سكينة المكان. أبحث عن أثر قذيفتي الهاون اللتين أصابتا فسيفساء أشجاره الخضراء وسط ربوع من ذهب.

أدخل. ألمس المعدن الفضي البارد واستنشق بعمق تلك الرائحة وأنا أتمتم بالفاتحة.

لا أحد غيرنا نحن الثلاثة. أنا، هو، ورجل ينام مسنداً رأسه على حقيبة ظهر قديمة، وربما روح الله ترف في المكان.

أنهي طقوسي، أجلس في الركن كما شاهدت في غفوتي وأدخل في داخلي عميقاً وبعيداً إلى لانهاية.

أكوام الثلج تتجمع في زوايا الطريق الحجري المبلّط. الشمس تذيب ما تبقى من بياض متكوّم على الأسطح. أثبّت نظري على المارة أمامي. تلفتني الأحذية كعادتي التي لا تتغير، الأحذية مجدداً… مهترئة، مبتلّة كوجوه أصحابها الخارجين إلى أعمالهم في هذا البرد.. ومع كل خطوة تتوزع خثرات الطين اللزج على بناطيلهم ومعاطفهم من الخلف.

أبيع ذاكرتي في دكان صاغة في فم سوق البزورية ومع تكاثف الدمع على رموشي يمدّ صاحب الدكان لي يده بعدة مناديل ورقية ويقرأ عليّ محاضرة طويلة في الصبر ووجوب الاتكال على الرحمن في تسيير أمور الدنيا. أمسح الكحل بمناديله الورقية وأمخّط مطولاً ثم أعتذر منه. ألقي النظرة الأخيرة على ذاكرتي التي تركتها عنده وأغادر.

عند إحدى الزوايا شجرة “كاوتشوكة” احترقت من الصقيع وتحولت إلى بنّية ذابلة. السماء صافية والمياه تقطر في كل مكان.

أدوس في جور الماء العكر ثم ألتفت لأتأكد من مقدار خثرات الطين التي تركها على بنطالي من الخلف.

نجتمع في سيارة تكسي واحدة. أنا، محصورة في المنتصف بين رجل مهترئ وامرأة بدينة مرحة تتبادل النكات مع السائق العجوز الذي يؤشر لأحد المارة في الطريق ويسأله بالإشارة إن كانت جرة الغاز التي معه ممتلئة أم فارغة.

نتوقف عند الحاجز. على الجدار الملاصق له، المثقوب بآثار الرصاص، كُتب بالأسود العريض: ” فلنحافظ على سوريا وطناً لكل السوريين..”

العسكري لا يلتفت لنا، إنه مشغول بإطعام جرو شارد يلوّح بذيله فرحاً وهو يتلقّى قطعة الخبز من يديه.

كانون الثاني 2015

  مجلة قلم رصاص الثقافية

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

وللمُدُنِ مَذاقاتٌ مُختلفة كما فَاكِهة الجَنّات (3)

3 ـ الإسكندرية.. ويحدث أحياناً.. أن تقع في حُبّ مدينة. لم يكن حبّاً من النظرة …