قبل أن نزجي التهنئة لسكان العراق بمناسبة الريادة الباهرة لمجلسه التشريعي “الديمقراطي” بمناسبة وضعه لتشريع منع تداول الكحول بأية طريقة كانت، علينا التذكير والتأكيد أن الكحول وُجدت منذ آلاف السنين كمادة سكرية غذائية تحفظ بالتخمير إلى غير موسمها إنها مؤونة مثل باقي المؤن مثل البرغل والسمن والقديد وإلخ، وللتذكير أيضاً أن هذه المؤونات استمرت عبر التاريخ ولم تستطع أية قوة أو فكرة أو عقيدة من إخراجها من التداول لا سلماً ولا حرباً، لا شرعاً ولا قانوناً، فالمعرفة بالخمر قد حصلت وانفض غشاء بكارة التجاهل إلى الأبد، فإذا كان البرلمان العراقي المعبر عن رأي “الأكثرية” يرى في ذلك إحقاق لحق وإزهاق لباطل، فإن للتجربة الإنسانية عبر التاريخ رؤية معكوسة تماماً.
لتجارب منع الكحول أو الخمور نتائج باتت واضحة للعيان، وخصوصاً للعراقيين الذين تحيط بهم بلدان منعت تداول الكحول ولعل لمدينة البصرة في مستهل القرن الماضي، شهادة لا تمحى في استقبالها للآلاف المؤلفة من شاربي الخمور من تلك الدول، على الرغم من توفر الخمور في تلك البلاد وبسخاء شديد لمن يدفع، ولم يفد منعها بمثقال ذرة، وكل زائر لتلك البلاد لا بد له من تجربة عيانية أو عملية مع تداول الكحول، إذا أستطاع للثمن سبيلاً.
لعل سبب التهنئة على هذا الإنجاز هو ليس ما يتبادر إلى الذهن مباشرة مثل ضمان البرلمان العراقي الجنة لناخبيه، ولا بسبب طاعة سكان العراق للقانون الصادر عن إرادتهم عبر ممثليهم، بل على اكتشاف هذا البرلمان لمطارح استثمارية جديدة، في تهريب الخمور وما تنتجه هذه المطارح من مجرمين (مهربين وفاسدين ومفسدين وشاربي خمر) يخالفون القانون ولعل بلاد الجوار تشهد على ذلك، فإذا أضفنا استفادات شركات الخمور الكبرى من زيادة الاستهلاك عبر الإقبال الجماهيري على الممنوع بالإضافة إلى القضاء على التصنيع المحلي له، وبالتلميح إلى استفادات كارتلات المخدرات “الحلال” من طبيعية وصناعية، ليبدو ميزان العدالة بدأ يميل لصالح أضرار أشد هولاً، ليبدو هذا القانون قد صك برعايتهما معاً أي شركات الخمور وكارتلات المخدرات، عبر الحصول على أقصى بيئة سلطوية فاسدة تتحكم بها وتسهل لها أعمالها، طبعاً مع تناسي قطاعات اقتصادية أساسية كالسياحة على سبيل المثال، إنها تأسيس لمطارح جرمية جديدة تتجاوز بأخطارها أذيات الكحول التافهة بملايين المرات خصوصا على المستوى الإستراتيجي، فما يحتقن اليوم سوف ينفجر حكماً غداً أو بعد سنوات.
من الواضح أن هناك سوء فهم لمفهوم السلطة مهما كانت تشريعية أم تنفيذية أم قضائية، كما أن هناك سوء فهم واضح لمفهوم فصل السلطات التي يقوم عليه مفهوم السلطة، كما أن هناك فقدان للأهلية السياسية من منظور الأقلية والأكثرية، وهنا ليس المقصود “البرلمان” العراقي وحده بل جميع البرلمانات “العربية” التي تنسى مجرد صعود أعضائها إلى منابرهم أنه تحت القبة وليست تحت السقيفة، والعلاقة مع الناس هو ليس فرض رأي الأكثرية المتوهمة غالباً، على رأي الأقلية/يات المصغرة تزييفاً يؤدي إلى فرز علاني “للمكونات” وكأن طريق الوصول إلى البرلمان ما هو إلا خدعة وبعدها يفعل البرلمنجيون ما يريدون، فتحت قبة البرلمان يتم النظر إلى الناس بصفتهم مواطنينن فقط، والتمثيل تحت قبته هو تمثيل للشعب كله وليس لإقلياته أو أكثرياته، وفي عكس ذلك يصبح أمر هذا الفرز مستفحلاً لدرجة أن رأبه سيمر بدورة عنف حكما لأن مصرع المساواة الصانعة للتمثيل برمته وعلى كافة أنواع سلطاته لا يعوض.
وبما أن هكذا قانون ذو مرجعية ماضوية تاريخية، فمن المنطقي العودة إلى التاريخ لملاحظة مدى استمرارية الكحول في جميع المراحل الزمنية، والبحث عن محطات “مأثورة” منع فيها الكحول خصوصاً في قصور الحكام (بغض النظر عن ألقابهم)، وهل استمر المنع أم خرقته الحاجات الإنسانية؟ يبدو أن البحث سيكون مخيباً للآمال فالتاريخ وأخباره تنفي منع الكحول في أية مرحلة من مراحله، لا بل تخبرنا وتؤكد لنا تداوله عند الشرائح الاجتماعية كافة وعلى”البرلمنجيين” العرب الإطلاع على كتب التاريخ والتراث في هذا الشأن علهم يفقهون العبرة الأساسية وهي عدم مقدرة أحد على إلغاء الكحول، وأيضاً ومن جهة أولى البحث عن تاريخية هذا المنتوج ومدى عراقته، على أساس أن “العراقة” هي عامل أساسي من عوامل أحقية الوجود والاستمرار كما حاول وزير النقل العراقي أن يوضحه عند زيارته لمطار ذي قار وهو قيد الإنشاء شارحاً أن هذا مطار سومري يعود إلى خمسة ألاف عام قبل الميلاد، وهو مطار سومري فضائي يسير رحلات بين الكواكب، وربما كان “العرق” أو الخمور الرافدية كانت أقدم منه وعليه فهي جديرة بالبقاء نظراً لعراقتها على الأقل.
قد يقول قائل (وقد قالها الكثيرون): ما هذه القضية الهامشية التي تثير كل هذا الغبار والقرقعة، فالإنسان يستطيع الاستغناء عن هذا الكأس التافه وغير الأساسي في العيش البشري، ولكن هذا القول يرد عليه بأنه مادام هذا الكأس تافهاً وغير أساسي فلماذا كل هذا الاهتمام به من قبل النخبة التشريعية العليا؟ مع أنه أمر لا يستحق، والرد الثاني هو بما يتعلق بالحرية وقضمها، فهذا القانون يعتبر تمريناً متصاعداً على قضم الحريات الفردية العمود الفقري لتشكيل المجتمعات واندماجها، واليوم يتم تطبيق قانون عدم تداول الكحول وغداً يتم التشريع لعدم تداول الحرير الصناعي مثلاً أو الكتابة على الفيس بوك أو الغناء والموسيقا والنحت لتبدو مقاصد مشترعي هذا القانون شريفة ولكن نواياهم سيئة (على الأقل)، فالهيئات التشريعية التي تتميز بهذه الخفة الحقوقية وهذا الدلع والدلال الاشتراعي لا يستبعد عنها أن تقونن بالمنع أي خيار أو حق مجتمعي يراه الفرد يسبب له السعادة أو الإبداع أو الإثنين معاً.
لقد تداولت البشرية الكحول منذ فجرها، ودخل في أعياده وطقوسه واحتفالاته وحتى أديانه، كما اكتشفت البشرية مضاره ومساوئه ولكنها استمرت بتداوله ولم تخرب الدنيا، ولم تنهر المجتمعات على رؤوس أعضائها، بل استمرت بالتقدم والإنجاز والإبداع، بل قننت هذه المجتمعات استهلاك الكحول وتداوله ورشدته بما لا يجرم لا المقاصد ولا النوايا. فليعلم كل من يريد أن يعلم أن الكحول لن ينته في العراق ولا في غيره من بلدان منعت الكحول، كل الذي سوف يحصل هو زيادة في عدد المجرمين، فهل النوايا حسنة؟
مجلة قلم رصاص الثقافية