“خير جليس في الأنام كتاب”
تبني عملية القراءة الأفراد والمجتمعات معاً، تبنيهما بعلاقة طردية متواترة تعد المؤشر الأبرز لارتفاع المنسوب الحضاري أو انخفاضه، هذه العملية غير العسكرية والتي لا تحتاج إلى أسلحة ثقيلة، ولا تُستنزف فيها دماء البشر، وفي حين منحنا المتنبي حكمته المبكرة:”خير جليس في الأنام كتاب”، يعد ألبرتو مانغويل في عصرنا صاحب تجربة مثيرة للاهتمام في هذا الميدان، وقد قدمها في كتابه “تاريخ القراءة”، وأقر أن القراءة كانت المبرر لبقائه، ولإعطاء معنى للعزلة التي فُرضت عليه، وقد رآها الكاتب المصري عباس محمود العقاد في زمن مضى وسيلة لجمع حيوات الآخرين التي لا يستطيع أن يعيشها في حياته الواحدة، أما الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه فذكر ببلاغة أن “كل شيء في هذا الوجود ينتهي طريقه داخل كتاب”!
تبدأ في حياتك كقارئ متدرجاً، بدءاً من اختيارات بسيطة إلى أن تصبح صياداً في معرفة الكتب التي ستضيف إلى رصيدك وتشبع تطلعاتك، إلا أن نوعية الكتب التي ستطالعها ستختلف تماماً في الفترات الزمنية العصيبة من حياتك، في الحرب مثلاً ستفلت منك القراءة المنهجية، فتختار لنفسك قراءات غريبة لا براغماتية، قراءات لا تدفعك نحو أزقة المثقف من الطراز الرفيع، قراءات تشبهك وتشبه خيباتك وآلامك، قراءات تطبطب عليك وتداوي جروحك، قراءات رومانتيكية مخدرة كبروفن من عيار600، وهذا يعني أن تدمن القراءة كلذة رخيصة يمكن أن تمنحك إياها السجائر أو الخمر أو المخدرات، أو حتى تناول الشكوكولا والخبز والجبن بشراهة، فأنت هنا لا تقرأ لتراكم الوعي وتبني المعرفة، بل لتفقد وعيك بما يحيطك، وأنت ناجٍ من جميع الإدمانات السابقة التي يمكن أن يدفعك إليها الواقع، ومعنى ذلك أنك نجوت بطريقة أو بأخرى من الحرب!
بعد أن تفشّت الحرب في حلب، بدأت تصيبني نوبات الهلع الليلي، وهذا يعني أن أصحو كل يوم في أوقات غير محددة ليلاً، وأنا أبكي أو أرتجف من الخوف أو أفكر بتأويل الكابوس الذي حلمت به، وأزعم أنني لم أنعم بنوم هادئ وغير متقطع طوال أربع سنوات متواصلة، وكان لا بدي لي أن أجد وسيلة لتهدئة نفسي والعودة إلى النوم، ففي الصباح أمامي يوم عمل طويل في المدرسة مع يقارب الخمسين تلميذاً، لذلك بدأت بالقراءة المخدرة سابقة الذكر كحلٍ وحيدٍ، لأتخلى بذلك عن القراءة الواعية مؤقتاً، وما لبث أن انسحب هذا الحل على كل اللحظات العصيبة في الليل وفي النهار أيضاً، يقول الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور: “لم تمر بي أبداً أية محنة لم تخففها ساعة أقضيها في القراءة” … في الحقيقة كان محقاً!
كنت أقرأ المغامرين الخمسة لمحمود سالم، وأعداداً من رجل المستحيل لنبيل فاروق، حتى أنني قرأت أعداداً كثيرة من سلسلة عبير، وأعدت قراءة أحلام مستغانمي، وباولو كويلو، وأناييس نن، وعندما يتحسن مزاجي كنت أعيد قراءة رواياتي المفضلة، فقرأت “العطر” مراراً، و”شيطانات الطفلة الخبيثة”، و”الجريمة والعقاب”، أما “الحب في زمن الكوليرا” والتي أراها أيقونتي الروائية المفضلة فقد حطمت رقماً قياسياً في قراءتها كأكثر كتاب أعدت قراءته على وجه الإطلاق، اتجهت للفلسفة كلما شعرت بالتماسك فقرأت عن تفكيكية دريدا، و ظاهرية غاستون باشلار، و”تاريخ الجنسانية” لفوكو، والذي أدخلتني مناظرته التاريخية مع تشومسكي في ثقب زمني تماماً، وكانت “الرقة” و”العمى” و”حفلة التفاهة” خيارات مثالية، كذلك عالم يوسا الإيروتيكي في “امتداح الخالة”و”دفاتر دون ريغو بيرتو”، أما “الغابة النروجية” لموراكامي فكانت أسوأ خياراتي على الإطلاق، ولا أنصح بها في الحرب فقد أحسست بميول انتحارية حادة بعد قراءتها!
في أحد المساءات الشتوية في الحرب وبينما كنت أقرأ، جرى انفجار مهول هز حلب بأكملها تقريباً، كنت قد اعتدت على أصوات الاشتباكات، ذلك أن المنطقة التي أسكن فيها تقع على مداخل حلب، وعليه فهي ساحة دائمة للكر والفر بين الأطراف التي تتصارع للسيطرة على هذه المدينة البائسة، اتصلت بي بعد حوالي الساعة صديقة مقربة، وقالت لي: هل سمعتي صوت الانفجار؟ أخبرتها بأنني لم أنتبه، تعجبت كثيراً، وقالت لي: هذه المرة الأمر مختلف، إن إحدى الجماعات الإسلاموية الموجودة في حلب أطلقت حملةً للسيطرة الكاملة على المدينة، وتريد أن تستولي على أجزاء جديدة، فبدأت بحفر أنفاقٍ، ومن ثم تفجيرها في محاولة للدخول إلى بعض الأماكن من تحت الأرض، قلت لها: يا صديقتي المدينة بمدنييها عذراء، ولذلك -ولأنهم متدينون- يريدون أن ينكحوها من الخلف، كأضعف الإيمان أمام شبقهم الجارف للجهاد، أنهيت المكالمة، وكتاب “قايين” في يدي مفتوح على الفصل الذي يخص قوم لوط، الفصل ذاته الذي جعلني أنسى هول الانفجارعندما كنت أقرأه، وأقول في داخلي للساخر الكبير ساراماغو: “دائماً في المرمى”!
موقع قلم رصاص الثقافي