من قال؟

و (من قال) أو (من قال لك)، سؤال افحامي ينهي أي حوار، لأن أية إجابة سوف تكون علاك، إذ من قال (على سبيل المثال) أن علينا أن نقبل بمفهوم المجتمع والدولة “الغربي” وأن نطبقه في بلادنا؟ أو من قال أن محمد علي ليس عثمانياً؟… ومن قال؟…. إلخ إلخ…

كيف يمكن الإجابة على هكذا سؤال؟ من قال؟ ربما وبما أن السؤال ينتمي إلى ثقافة القول، أي الثقافة الشفاهية غير المسؤولة، يمكن الإجابة على هذا السؤال بـ(من قال) مساوية ومعاكسة، إذ من قال أن تجربة مفهوم الدولة والمجتمع “الغربي” غير نافعة؟ ومن قال أن تطبيقها لن يخضع لتعديلات بيئية تناسب المكان والزمان؟ ومن قال أننا لا نمارس ولو بتبعية مذلة المنظومة الاقتصادية الغربية وليس هناك بديل نافع عنها في المدى المنظور حسب سرعة هذا العصر الذي أصبح فيه المستقبل تاريخاً؟ طبعاً هناك من قال، وهناك من يقولون، ولكن ماذا تعني نسبة ما يقولون للقائلين؟ أهو جواب على السؤال المشكلة؟

ثم من قال؟ أن الكلام في الثقافة هو كلام شفاهي (حتى لو كان مدونا) لا تقع عليه أية مسؤولية معرفية أو جدانية؟ حتى يصير بهذه الفانتازيا الهزلية، التي تتضمن الإستهانة ليس برأي الأخر بل بمعرفته وجهوده وبحثه، فإذا كانت الإجابة هي “كانط” أو “ماركس” أو غيرهم… سيقول لك ومن هو كانط أنا لا أعترف به فما هو إلا حثالة تفكيرية ملعوب فيه أستشراقياً، لتصبح الإجابة على سؤال (من قال؟)، مثل (الضراط على البلاط) وطارح السؤال لم يكن ينوي فتح حواراً جدلياً بقدر ما يريد مماحكة شفوية ينتصر فيها على عدوه (ليس منافسه)، في معركة (غزوة) تبيض له وجهه، فالحساب هنا على النوايا وليس على الفعل المعرفي، ومن ثم من سيحاسبه معرفيا عن هذا السؤال / التحدي البريء؟

بربكم من قال أن البيئة تتردى بسبب الإنحسار الحراري؟ ومن قال أن الفن سلعة استراتيجية أساسية تماثل الخبز وتتساوى ضرورته معه؟ ومن قال أن الصحراء الجليدية تشبه الصحراء الرملية؟ ومن قال أن التفاح هو باذنجان؟

يفضح هذا السؤال بنية ذهنية منحطة على الأقل، تعاني من رهاب هشاشة الثقافة عند طارح السؤال، إنها تعبير عميق عن عدم الثقة بهذه الثقافة، وبالنفس أيضاً، في اجترار لمنجزات ثقافية عابرة بحكم التطور والارتقاء، إذ ماذا تساوي معارف ابن رشد الآن؟ وأقول الآن بمعنى أنها استخدمت وأخضعت للجدل الارتقائي في حينها، ولم تعد هي نفسها نافعة في هذه الأيام إلا للسياحة المعرفية الممتعة والافتخارية، ومعارف ابن رشد والفارابي وابن سينا والخوارزمي وغيرهم… وضعت في الاستثمار الصحيح لها، وتحولت بواسطة الجهود العقلية التي طبقت عليها (بالإشتراك مع غيرهابالطبع) إلى معارف عالمية يشترك فيها البشر جميعاً بناءً على بذل الجهد العقلي في الجدل معها، لذلك لا يبدو الكندي هو من اخترع السينما على الرغم من أنه تكلم ودرس العدسات، في هذه المسافة بين العدسة والسينما تقبع ذهنية (من قال؟) في تعبير يائس عن الثقة بالهشاشة الناتجة عن التنبلة التاريخية للاستثمار في المعرفة، فمن قال؟: أن علماء الكلام من “العرب” ينفعون كأساس للتنوير اليوم؟ وهم الذين نقلوا عن الاغريق وغيرهم جل علومهم وجادلوها وأنتجوا تلك المعرفة في حينها حتى ابن رشد الذي يبدو متخلفاً اليوم لم يأت بمعارفه التأسيسية من عندياته؟ فيلقل لنا أحد متشدقي سؤال (من قال؟) هل قال أحدهم إنها نافعة اليوم؟ من هو؟ أهو محمد عابد الجابري؟ أم حسن حنفي؟ ببساطة يمكن القول أنا لا اعترف بهم، ليفقد هذا السؤال الاستغرابي معناه ليسقط ميتاً، خصوصاً أنه ليس من مؤسسات بحثية عربية أو تنافس فكري يمكن مقايسته، يمكن أن يرشدني إلى مدى جدية ما ينتجون، نعم هكذا ببساطة ولا أحد يستطيع مساءلتي، ومن قال أن أحد يستطيع مساءلتي عن عدم الاعتراف هذا؟.

وعليه، من قال أن موروثنا تراثا وتاريخاً وفلكلوراً وفكراً، لا يضاهيه جودة وربما أحسن منه أي موروث آخر لشعب أو شعوب أخرى؟… الجميع قال هذا، ولم يقل أحد شيئاً، فالجوابين سيان كقيمة معرفية، وإذا أكتشفنا القائل!، من أين لنا أن نمنحه الثقة المعرفية كوننا لا نملك إلا خطاب شفاهي لا يسمن ولا يغني عن جوع، إذ ما الذي يمنع أن نرد (وإذا قال)، ومن طرف آخر يبدو أننا ننسى السؤال وننشغل بمعرفة القائل، والسؤال في المثال المذكور هو سؤال فجائعي لن يقبل الإنتباه اليه أحد، لأنه سوف يكتشف بعد تمحيص بسيط أن علماء الكلام مثلا (الفلسفة مجازاً) قد أخذوا عن غيرهم “الغرب” خصوصاً كحضارة بشرية عامة وليس “كغرب” معادي، وأن أصل علومهم هي غربية بالمعنى الحالي، لينفس أصحاب (من قال ؟) محاولتهم التأصيلية الإستعلائية المنتفخة، إنتفاخهم  بأيديهم، لأن الدائرة الحلزونية الارتقائية للأعمال العقل سوف تعيديهم وربما تعيد غيرهم إلى أصول تنتمي الى غيرهم، والآن: …. ثم من قال: أن لدينا منظومة معرفية إقتصادية، أو أنموذج اقتصادي يمكن التعويل عليه، لنقبل على الانفصال عن العلوم الاقتصادية “الغربية” القائمة على الإنتاج؟ هذا هو لبّ السؤال الفجائعي الذي نطلقة مركزين على شخصية من قال، ولكن الإجابة العقلانية تصدم وتسود الوجه.

السؤال هو بداية البحث والجدل والنقد والتفكير، فإذا كان المقصود منه إلغاء وظيفته فبئس العملية المعرفية السلبية التي يتسبب بها، وبئس النتائج التي يصل إليها وبئس العيش في ظلال هكذا ثقافة تنتج هكذا أسئلة جاحدة.

(من قال؟) سؤال ينتمي إلى الكوميديا السوداء، يتبارى طارحيه بفهلويتهم، ويتصدون لأقصى المعضلات بالوعد والتأجيل المشروطين بشروط تعجيزية، إذ من قال بأنني لا أستطيع التغلب على علي كلاي بالملاكمة، فقط أخرجوه من قبره، وأعدكم بأني سوف أبطحه بالقاضية في الجولة الثالثة، لأني لا أريد أن أتفشخر وأقول من الجولة الأولى… فمن قال أنني لا أستطيع التغلب عليه؟

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن نجيب نصير

نجيب نصير
كاتب وسيناريست سوري عريق، كتب العديد من المسلسلات السورية التي لاقت إقبالاً كبيراً، تمتاز أعماله بطابع خاص، ومن أبرزها: نساء صغيرات، أسرار المدينة، الانتظار، تشيللو، فوضى، أيامنا الحلوة، وغيرها.

شاهد أيضاً

التفاهة المقنعة

للناظر إلى برامج المنوعات التلفزيونية العربية (الأنترتيمنت)، حق إبداء الرأي فيها، ومن أهم مظاهر هذا …