الرئيسية » مبراة » احتفوا بهم أحياء

احتفوا بهم أحياء

تربص الموت بمنطقتنا، ولازمها مُلازمة وأراه يتحين الفرص كل فترة للانقضاض على مبدعينا ومثقفينا وكأنه قد تآمر مع كل العالم علينا، وكأن الثقافة لا يكفيها ما يُرتكب بحقها يومياً منذ سنوات وحتى اللحظة، إذ أن تكالب الأمم علينا ترافق مع رحيل متسارع لأغلب الأسماء المهمة في مختلف المجالات، وقد ساهم ذلك بهجمة شرسة من قبل المستسهلين والمتسكعين والمتسلقين على معظم المجالات الإبداعية مما أدى إلى “إنفلاشها” وترهلها.

وكما تربص الموت بالمبدعين من مثقفين وأدباء وكتاب وفنانين هناك من يتربصون بملك الموت نفسه ويلاحقونه وينتظرونه وما أن يقطف روح أحد المبدعين حتى يفتحون محرك البحث “غوغل” ويبدأون رحلة البحث عن مآثره كي يكتبوا عنها، وحين تقرأ مقالاتهم في اليوم التالي للوفاة تفكر كثيراً أين كانوا عن هذا المُبدع حين كان على قيد الحياة؟ لماذا لم يكتبوا عن أدبه وكتبه وعلمه وفنه وفلسفته ومآثره وتعاسته عندما كان حياً يُرزق؟

هذه الأسئلة تستحق الوقوف عندها، ولعل كثر باتوا يطرحونها اليوم في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، والحقيقة أعترف أني لم أعرف أسماء كثيرة من مثقفينا الكبار الذين رحلوا في السنوات الأخيرة إلا من خلال كتابات بعض الأصدقاء عنهم.

وكنت دائم التساؤل وأنا أقرأ تلك المقالات التي تُكتب في اليوم التالي للوفاة ما داموا يكتبون عنه بهذه الطريقة التي ينضح منها الإعجاب، هم حتماً كانوا يعرفونه جيداً وهم قريبون منه وقرأوه أو شاهدوا معارضه ورسوماته، وهناك العديد من بلغوا بشهرتهم معظم بلدان العالم إلا إن أحداً لم يتناولهم في كتاباته ومقالاته.

لكن يبدو أن للكتابة مواسم ومنذ سنوات طويلة ازدهر موسم الموت وأخذ بعض الكتاب يستثمرون في هذا الموسم وأينما استثمار، ولست أعيب عليهم ذلك لكني أريد الإشارة إلى هذا الأمر لأنه تحول إلى ظاهرة بات يُلاحظها حتى الأميين.

أعرف أننا شعبٌ مجبول بالحزن، وأغلبنا يعشق جلد نفسه وكأننا سلالة “سيزيف” إلا أن ذلك يجب أن لا يجعلنا أسرى لموتنا ونطوي أقلامنا بانتظار ميت جديد ننعيه ونكتب عن محاسنه ودماثة خلقه ونختصر مسيرته بكل ما فيها بمقالة لا تتعدى صفحة A4، أو صفحتين في أحسن الأحوال، إن الواجب يفرض علينا أن نحتفي بهم وهم أحياء، ولإيماننا بذلك جعلنا تسعة أبواب في “قلم رصاص” للاحتفاء بالمبدعين الأحياء وخصصنا باباً واحداً وهو “رصاص ميت” للاحتفاء بالموتى من المبدعين وإعادة نشر إبداعهم.

يكفي أن حكوماتنا في المنطقة العربية لا تحتفي بالمبدعين وهم أحياء إنما تمنحهم الأوسمة وتأمر الصحف بذكر مناقبهم بعد رحيلهم، لذلك يجب أن لا نتشارك مع السلطة ذرف دموع التماسيح على من عاش منسياً ورحل منفياً.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فراس م حسن

فراس م حسن
قـارئ، مستمع، مشاهد، وكـاتب في أوقـات الفراغ.

شاهد أيضاً

محضر تحقيق !

قررت أخيراً أن أضع حداً له، وداهمت مسكنه عند منتصف الليل، كان مستلقياً فوق طاولة …