“ما ضر لو كان جلس”
يتحدث العالم في الوقت الراهن عن أفكار “ما بعد النسوية”، ويفصّل المنظرون والفلاسفة في مصطلحات: “الجنوسة” و”القهر” و”البطريركية”، متجاوزين “النسوية” بمفهومها الأول الذي بدأ في أوروبا أواسط القرن التاسع عشر تقريباً، والذي كان يهدف إلى المطالبة بحقوق المرأة وتحريرها من القمع، ومتجاوزين كذلك الحركة “النسوية” الثانية التي ارتفعت وتيرتها في منتصف القرن العشرين، وقد أضافت إلى مطالب المساواة السابقة: النقد العقلاني والتحرر في ميادين السياسة والجنس والمجتمع بشكل أوسع، وبما أن عجلة الزمن قد عادت بنا -بعد مفرزات الحرب السورية- ألاف السنوات إلى الوراء، سنجبر أن نتحدث عن المرأة في سورية بحسب المرحلة الأولى في الفكر النسوي تبعاً للحاجة الاجتماعية الماسة لذلك، عموماً تقول سيمون دي بوفوار: “لا تولد المرأة امرأةً، لكن المجتمع هو الذي يعلمها أن تكون امرأة”!
تدفع المرأة في سورية فاتورة باهظة الثمن في ظل القصف والقذائف والدمار وانعدام المكان الآمن، ولا إحصائيات واضحة حتى هذه اللحظة عن عدد النساء اللواتي استشهدن، عن المعتقلات، أو المفقودات، عن اللواتي تعرضن للاغتصاب، أو التعذيب في السجون، أو التحرش الجنسي، عن عدد النساء الأرامل، المحاصرات في أماكن اشتباكات، اللواتي شكلت لديهن الحرب إعاقة ما، اللواتي فقدن أطفالهن، الأمهات اللواتي تقسّمت عوائلهن، وما زلن ينتظرن لمّ الشمل من جديد، وهنّ في وضع نفسي قاهر، هذا وقد ذكرت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أن أكثر من 14500 امرأة لاجئة أصبحت المعيل الوحيد لأسرتها، حيث تشكل اللاجئات في الدول المجاورة نسبة 35% من عدد اللاجئين.
بالإضافة إلى ملف القاصرات اللواتي أُجبرن على الزواج، وبخاصة في مخيمات تركيا و لبنان والزعتري في الأردن، حيث يأتي رجال ميسورون مادياً من تلك البلاد أو من غيرها، ويتزوجون زواجاً للمتعة لمدة شهر أو أكثر، ثم يغادرن بدون تثبيت للزواج، أو نسب الطفل إليهم إن حملت هذه القاصر، وتتم هذه الصفقات لقاء مبلغ تافه من المال، أو وعود واهية لانتشال الفتاة من المخيمات ومساعدة أسرتها، عدا عن انتشار القوادين وشبكات الدعارة، كذلك ملف النساء اللواتي وقعن في يد التنظيمات المتطرفة، وخاصة الإيزيديات، والممارسات المروعة بحقهن، وبشكل عام إن وضع المرأة في تلك المناطق يشكل مأساة حقيقية، فقد تم رجم بعضهن بالحجارة بتهمة الزنا، و فُرض عليهن النقاب، وعدم الخروج بدون محرم، وعدم التبرج ، كذلك حُرمن من التعليم، وتم أخذ بعضهن سبايا، خاصة بعد فتاوى جهاد النكاح المثيرة للجدل، حيث يستطيع “المجاهد” أن يأخذ أية امرأة تعجبه عنوةً، ويستبيح جسدها، أو يقدمها هدية، أو يبيعها في سوق نخاسة القرن الواحد والعشرين، ويقبض ثمنها.
تغير وجه محافظة حلب تماماً بعد الأحداث، تغير من الفن والطرب إلى وجه عسكري صارم، وتقطعت أوصالها بعشرات الحواجز العسكرية في الغرب والشرق والريف، الحواجز التي كانت تطلب الهوية الشخصية لك في كل مرة، وكأنك مشروع مجرم لا محالة، والتي تضبط إيقاع يومك بحسب مزاجها، وما تحمله من أيديولوجيا تختلف باختلاف الجهة التابعة لها، ولك أن تتخيل واقع المرأة اليومي مع رجال مسلحين، متشبعين بأفكار مجتمعات ذكورية أساساً، وهم بالإضافة إلى ذلك يحملون السلاح في ظل رقابة معدومة وفوضى عارمة، وهذا يعني أن تتحمل المرأة تحرشات لفظية أو جسدية، عدا عن أنها أُجبرت على تغيير نمط ملابسها، ومواعيد خروجها من المنزل -هذا بالطبع إن كانت في منطقة يُسمح لها بالخروج!- وبذلك نضيف شريعة الغاب المسيطرة في سورية إلى ملفات المعاناة السابقة، شريعة الغاب التي أفقدت المرأة أي حق لها في محاسبة المتطاول، والتي كانت عاملاً إضافياً أدى لانتهاك حرمتها بل وفقدان الكثيرات لحياتهن!
لا أدري إن كان علي الحديث عن زميلتي في الجامعة التي قُنصت في اليوم التالي لزواجها، فعادت إلى منزل أهلها جثة بعد أقل من أربع وعشرين ساعة في تراجيديا تفوق تراجيديا “هاملت”، أو أتحدث عن معاناة صديقتي العمياء، التي كانت تسافر لأكثر من عشر ساعات من شرق حلب إلى غربها من أجل محاضرات تمهيدي الماجستير، والذهاب لمكتبة الجامعة، دون أية مراعاة إنسانية لحالتها، وقد حاربت كثيراً لتأخذ غرفة في السكن الجامعي للطلاب بعد أن تحول بعد أزمة النزوح إلى مركز إيواء، أو عن صديقتي التي نزحت مع أهلها إلى المخيمات الواقعة على الحدود التركية، وتزوجت وأنجبت ولدين، قبل أن يتشاجر زوجها مع أحد الرجال، فقام بإطلاق النار على زوجها دون أية محاسبة له، وما زال يسرح ويمرح أمام عينيها، وقد أصبحت معيلةً لطفلين في ظروف طاحنة، يقول مثل إفريقي بليغ: “الرجل لا يصغي لصوت المرأة إلا بعد فوات الآوان”، الغفران والتسامح وتضميد الجراح هو ما تريده المرأة السورية المدنية، ربما آن للجميع سماع صوتها وهي تستغيث: “أما يكفي”!
في أحد الأيام وبينما كنت أنتظر سيارة لأذهب الى المدرسة، أوقفني ثلاثة مسلحين بملابس عكسرية، وقال أحدهم: أريد أن أتعرف! تجاهلته بالصمت، فكرر الطلب بلهجة أكثر صرامة، أكاد أزعم أن في الشارع ما يفوق المئة شخص على الأقل، لكن ما من أحد فكّر أن ينقذني وبما أن الخلاص في الحروب يكون فردياً كان علي أن أنقذ نفسي! كانت سيارتهم بالقرب، وهذا يعني أن شتيمة طائشة أو محاولة هروب ساذجة ستوصلني إلى داخل السيارة، ليختفي أثري بعدها، ثلاثة مسلحين، وهذا يعني أن حركات الدفاع عن النفس التي تعلمتها من أجل مواقف كهذه لن تفيدني، أسعفني عمنا أبو نواس بقوله: “داوني بالتي كانت هي الداء”، فقلت لهم: ابتعدوا عن طريقي وإلا ستندمون، فأنا ابنة العقيد الركن فلان الفلاني، لا أذكر الاسم الذي اخترعته، لكن لهجتي الصارمة ورأسي اليابس منذ البداية جعلهم يبتعدون، شعرت أن لا طاقة لدي لأذهب للعمل، كان تاريخ سورية كله واقفاً في حلقي قبل أن تسعفني سخرية أبي نواس مرة أخرى: ” ما ضر لو كان جلس”!
موقع قلم رصاص الثقافي