الرئيسية » رصاص خشن » “العبور نحو غرناطة” 1

“العبور نحو غرناطة” 1

نورس علي  |  

نورس علي
                                                        نورس علي

أشعر بالألم.. أشعر بألم بارد يتسلل عبر عمودي الفقري وأنا أكتب هذه الكلمات. ولكنِّي أعلم علم اليقين، كما تعلم فراشة حمقاء بأن تلك النار التي تحوم حولها هي هلاكها الأخير.. كذلك أعلم أن الكتابة، ولاشيء سواها، نزيف عقلٍ متعبٍ ووجدانٍ هرمٍ فوق سطور ميتة.. هذا النزيف وتلك السطور.. تلك السطور.. هي ألمي وخلاصي الأخير! اتّكأت أمي المتعبة فوق أريكة مقابلة لمكان جلوسي، كانت قد تجاوزت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وتبقت قرابة ثلاثة ساعات على موعد الباص.

أمي التي اكتفت بخلع حجابها وإغماض عينيها لم تنم للحظة واحدة.. كنت أعلم ذلك ولكن كما كل شيء آخر.. كنت أكتفي بالصمت.. ولاشيء سوى الصمت. في الليلة التي سبقت كانت أختي وزوجها وابنتها الصغيرة عندنا في المنزل، و عندما تأخّر الوقت وحان وقت عودتهم إلى منزلهم، عانقتني أختي ثم انفجرت في البكاء. لم تكن تعرف بأنني سأقضي الساعة الأخيرة في منزلهم في الليلة التي تليها متّكئاً على كرسي باردٍ، محدّقاً في اللاشيء. ليلتها عندما انفجرت بالبكاء قلت شيئاً سخيفاً ما، فضربتني على كتفي برفق.. لم أعد أذكر ما قلته ليلتها، ولكنني أذكر تماماً لمَ قلته، لم يكن ذلك سوى نوع من البرود المتعمّد.. البرود السخيف الذي نتّبعه في لحظات انكسارنا الداخلي حتى لا ينهار كلّ شيء دفعة واحدة.

ابتسامات مزيّفة.. نكات سخيفة.. و الكثير الكثير من الألم الذي يجرفنا من الداخل. أمّي كانت ماهرة أيضاً في تلك اللعبة، أمهر من أبي الذي انفجر باكياً وأنا أغادر المنزل للمرة الأخيرة في الليلة التي تلتها، ولكنّي مع ذلك كنت أمهرهم جميعاً، فقد خسرت أمّي في اللحظة الأخيرة.. نعم أنا أمهرهم جميعاً.. كاذبٌ برتبة فارس !

أصبحت الساعة الرابعة والنصف صباحاً، تبقّت ساعة واحدة على الباص. صرخ المنبّه واستيقظ الجميع، أمّا لمار وميّار .. لمار الجميلة الصغيرة ابنة أختي بقيت نائمة، والحمد لله أنّها بقيت كذلك، لأنّني كنت سأخسر اللعبة باكراً لو استيقظت يومها. كما بقي ميّار الرضيع ابن أختي الصغير نائماً أيضاً كأخته واستيقظ والدهما الذي سيوصلني إلى مكان انطلاق الباص برفقة أمي وأخي الأكبر، وأختي التي ودعتني هذه المرة من دون دموع، فقد أنفقت جميع دموعها في الليلة الماضية.

صعدنا إلى السيارة، كان الصمت تقريباً سيّد الموقف، الشوارع خالية تماماً. وأنا كالملهوف أسرق مشاهد من دمشق. كلّ شيءٍ يعترض ناظري، جدار القلعة القديمة، قلعة دمشق التي تعرفني وأعرفها جيداً، الشوارع النائمة بين يدي الحرب، سوق مدحت باشا الأثري، دوّار الخضرة، مدرستي التي قضيت فيها اثني عشرة عاماً، حاويات القمامة، قطّة نائمة على جانب الطريق، إشارة مرور، رائحة المكان، محلٌّ شهيرٌ لبيع الحلويات كنت قد اعتدت بشكل شبه يومي أن أشتري منه ( الكنافة النابلسية ) أو (المدلوقة بالقشطة ).. أريد أن أحمل كلَّ شيء معي، أريد أن أحمل دمشق في ذاكرتي، في روحي المتعبة، ولكن أين هي دمشقُ الآن؟!

لقد كان ذلك قبل زمنٍ بعيد.. بعيد جداً، كأنّه قد حصل في حياة أُخرى.. عبرت بنا السيّارة سريعاً في شوارع المدينة النائمة نحو منطقّة ( المزّة ) حيث تجتمع الباصات لتقلّ المسافرين نحو مثواهم الأخير.. عفواً أقصد إلى خارج البلاد.. بعيداً عن كلِّ شيء. ترجّلت من السيارة أولاً مع صهري، وتبعنا أخي مع أمي ورحنا نتفحّص باصات (البولمان) واحداً واحداً لنعرف أيّها يقلّ المسافرين إلى مطار بيروت الدولي.

وقفنا ننتظر حائرين لبضع دقائق، وهنا يجب أن أعترف بأنّني قد تمنيت للحظة أن لا نجد ذلك الباص أبداً. تمنّيت أن يصرخ أحدٌ ما من بعيد، لقد فاتكم الباص، لقد رحل منذ قليل، عودوا إلى منازلكم.. لقد تمنيت ذلك، ولكن سائقاً يقف على باب أحد الباصات كلّمنا قائلاً : “هاد الباص رايح على مطار بيروت، الي رايح على اسطنبول على رحلة أجنحة لبنان يطلع معه”. وللحظة توقّف كلُّ شيء، توقّف الزمن عن السريان، جرى شيءٌ غريبٌ بيننا لا أعرف ما هو، حماسة زائفة، حزن يطفح من الأعين، ابتسامات خائرة.

توجّهت مع صهري إلى السيارة لنخرج الحقائب من الصندوق الخلفي، وعدنا سريعاً مثقلين إلى مكان توقّف الباص حيث كان أخي الأكبر وأمّي. حانت لحظة الحقيقة.. عانقت أخي الذي اكتفى بابتسامة وتوصيات مثل: دير بالك عحالك، طمنا عنك، حاكينا أول ما تقطع الحدود.. كنت أعلم بأنّه يريد قول غير ذلك ولكنّه حاول أن يمنع الموقف بأسره من الانهيار وكم كنت سعيداً لأنه فعل ذلك. عانقت صهري الذي ودّعني بابتسامة وبضع عبارات تشجيعية. كان هو الآخر يعلم بأن القلوب ترقص على شفا هاوية البؤس، ولا طاقة لها في غير ما قيل.. التفتت إلى أمّي.. أمي التي بقيت صامدة حتى اللحظة الأخيرة، كنت أعلم بأنها امرأة قوية بلا ريب، ولكن ما حصل تالياً أثبن لي بأنها أقوى امرأة على وجه هذه البسيطة.. اقتربت منها، اقتربت مني، تعانقنا.. وفي اللحظة التي تلت شعرت بأنَّ زلزالاً قد مرّ على حين غرّةٍ في جسدها.. رجفة عظيمة شعرت بها عبر صدرها، بضع دمعات مخنوقة، ونظرة هائمة لا تلوي على شيء.

أكاد أقسم بأنّ الأرض قد ارتجفت لوهلةٍ تحتنا. كلُّ ذلك الحزن الذي تحشره في زاوية صغيرة من زوايا الروح، ينفجر بطريقة أو بأُخرى، ويطوف معه الزمان والمكان والعالم بأسره. حملت الحقائب بتثاقل، وضعتها في المكان المخصص، صعدتُ إلى الباص وأنا أشعر بأنّ موسيقى وداعيّة تعزف في الخلف، موسيقى تذرفها دمشق دموعاً بهيئة أمطار ونواحاً على شكل رياح، كلّما عبر شابٌ نحو الضفّة الأخرى.. وللمرة الأولى لم يكن الموت هنا في هذه الحالة هو تلك الضفّة.. بل المنفى.. المنفى الإجباري لكلُّ شبان الوطن الذين لا يرغبون في القتال في حرب المجانين المسعورة!

رحت أجول بعيني.. في الباص يوجد قرابة خمسة عشر شابًاً وامرأتان وطفلان.. وحول الباص يجتمع أهلٌ.. محبّون.. أصدقاء.. كلّهم يتشاركون اللحظة نفسها، أرواحُ هائمةٌ في سعير الحرب، وداعاتٌ قاتمة، أحلامٌ مؤجّلة، وذكريات.. يا إله الذكريات.. لن تعود أبداً. وقف الباص في انتظار اكتمال الركّاب، رأيت أمّي وأخي وصهري يقفون جانباً، لم أسمع ما الذي يقولونه.. ولكنّني كنت أعرف في داخلي وأنا أرى تلك الشفاه تتحرّك، بأنه لم يكن شيئاً ذا معنى، مجرد مناورة أُخرى، محاولةٌ أُخرى، للاحتيال على الزمان والمكان، محاولةٌ أُخرى للاحتيال على الموت.. الموت الذي بات ضيفاً دائماً على موائد السوريين، وشريكاً شرعيّاً في مصائرهم المقسّمة مسبقاً بين أصحاب السلاح وتجّار السلطة ونخّاسي الدماء.

مضت بضع دقائق بدت كأبديّة خجولة. صعد أخي إلى الباص حاملاً في يده ورقة نقديّة من فئة ألف ليرة سوريّة، قال: “هذه من أمك يمكن تحتاجها”، ابتسمت في سرّي، ولكنّني ذاهب إلى بلاد ليس لعملتنا فيها قيمةٌ تُذكر ، فما فائدتها ؟! كنت في حال أُخرى سأرفضها وأتشبّث برأيي لولا أنّني علمت بأن الحكمة تقتضي بأن أقبلها من دون جدل لا فائدة فيه، إن كان ولا بد، ولم أستفد منها في شيء، فسأبقيها معي كذكرى.. كقطعة صغيرة من بلاد كلُّ ما فيها أصبح صغيراً وضيّقاً حد الاختناق. دسستها في جيبي، عُدت بناظري نحو النافذة التي أرى أمّي عبرها..رفعت عيني قليلاً إلى الأعلى، متى أصبحت دمشق هكذا؟!

أذكر بأنّني كنت أرى في صور دمشق المأخوذة في عام ١٩٥٠ وما بعد بأنّها مدينة ساحرة. لم تكن بطبيعة الحال مملوءةً بناطحات السحاب ولا متخمةً بالمولات التجاريّة، كما أنّها ليست كذلك الآن، ولم تكن كذلك قبل الحرب بالتأكيد.. ولكنّها كانت دمشق البسيطة التي يكسوها حسٌّ مختلطٌ من البساطة والدماثة في آن معاً.. نعم الدماثة!! لا تستغربوا، فهنالك مدنٌ على وجه الأرض يكسو محيّاها حسٌّ مرهفٌ من الدماثة، تماماً كما يتّشحُ وجهُ عذراءٍ جميلةٍ بذاك الحس.. ودمشق.. أقدم عاصمةٍ في التاريخ، كانت أكثر مدن العالم دماثةً أيضاً.

كان في دمشق طابعاً طاغياً من الشرقيّة الأصيلة، والعروبة الخام، تستطيع أن تجده بسهولة بالغة في “دمشق القديمة ” حيث الجامع الأموي وقصور الخلفاء والسلاطين وآثار الإمبراطوريات وأضرحة العظماء، ليس ابتداءً بصلاح الدين الأيوبي، ولا انتهاءً بالظاهر بيبرس! تعبر في ذاكرتي الآن مئات الأسماء، أسماء رومانية أموية أيوبيّة عثمانيّة.. تاريخ يطمرُ تاريخاً، دمشق.. المدينة الحُبلى بما لا تطيقه المجلّدات ولا تحفظه الصدور من أحداث وتواريخ وسلاطين وفرسان. اختلط هذا الطابع التقليدي بنفحة غربيّة بعض الشيء بعد قيام الفرنسيين باحتلال المدينة.

أصبحت دمشق تحمل في ملامحها اختلاطاً سُريالياً مدهشاً ما بين أصالة الشرق وحداثة الغرب، لم تعد مدينةً ذا لونٍ واحد، هذا إذا كانت كذلك في يوم ما.. بل أصبحت مدينة بألف ألف لون وألف وجه وألف روح.. وكلُّ ألوانها ووجوهها وأرواحها جميلةٌ حدَّ الثمالة. ولكن الآن.. الآن دمشق مدينة بلا روح ولا وجه ولا لون. مدينةٌ بلا نهر!

لقد جفّفوا بردى الذي أشبعه نـزار قباني غزلاً، وملأوا المدينة بالعشوائيات المقفرة، وازدحام المرور نتيجة الفشل الذريع في تهيئة الطرقات وتنظيم السير كما يلزم، وفوق كلّ ذلك ( كما يقول المثل الدمشقي المعروف: فوق الموتة عصّة قبر ) ملأوا المدينة بالحواجز التي خنقت حركة السير بشكلٍ مريع، وطبعاً كلُّ ذلك خوفاً على سلامة المواطن.. هنيئاً لك أيّها المواطن العظيم!

شاعر سوري ـ ألمانيا | خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

وحشية

١ ثمة ملاك، أو هذا ما نظنه لأنه يرتدي لباساً أبيض، ينشر حوله هالة نورانية، …