الرئيسية » ممحاة » “الهوية ليست في الأسماء”

“الهوية ليست في الأسماء”

أحمد كرحوت  |

المدن كلها جميلة طالما أنها خالية من السلاح ويمكن أن ترى الغيوم رمادية في مثل هذه الأيام الخريفية، أقصد طبعاً أن لا تكون محملة بالبارود الخانق، المدن كلها جميلة طالما أن شوارعها مكتظة بأرجل الأطفال الذاهبين إلى المدارس غير المسكونة إلا بالمقاعد، والعشاق المتجمهرين في الحدائق العامة وهم يرتدون (اللباس المدني) أياً كان هذا اللباس وأياً كان انعكاسه على ثقافة شعب بعينه..

كل المدن جميلة طالما أنها لم تفغر فاها بعدُ لاستقطاب الأجساد والشد على ربطات العنق الطويلة حد الشنق..

نعم كل المدن جميلة إلا أن ليس كل المدن متشابهة بجمالها، يحدث مثلاً أن تمشي في مدينة كل ما فيها بسيط لدرجة تشعرك بأن الشارع منزلك كما يحدث في اسطنبول الشبيهة بدمشق “حين كانت دمشق صبية مُثيرة” تلك المدينة الساحرة الغنية بالروائح في أحجارها وجدرانها وساحاتها، في أنفاق المترو التقليدية والبسيطة والمليئة بالوجوه الملونة البيضاء والسمراء والصفراء والسوداء، وجوه تشبه حجارة آيا صوفيا إلى حد كبير، تفكر للحظة وأنت تقارن بين الاثنتين هل من المعقول أن تعكس الحجارة مرآتها للشمس فتغير صباغ الميلانين بعد أن تصدم في نواتها المتوهجة!

بعض الأماكن جميلة بعصريتها لكن كيف يكون الجمال كاملاً بلا رائحة، الرائحة ذاتها التي تجمع شخصين بعلاقة مطولة فقط لأن روائحهما تآزفت فتخاصم بعدها كل شيء عدا ذلك، لا يمكن للاسمنت أن يدخل معركة مقارنة خاسرة مع الحجارة أبدا ولا يمكن للإسفلت أيضاً أن يقارن نفسه بالشوارع الحجرية، الرائحة التي يفتقرها الأول في حين يكون الأخير ممتلئ بها ربما هي جوهر كل شيء فكما لكل شيء في هذا العالم نواة ومركز، هي الرائحة إذاً, رائحة الشمس الدافئة، رائحة الشمس الحارقة، رائحة المطر، رائحة النساء الجميلات والقبيحات، رائحة الأم، رائحة الطفل، رائحة الطعام الذي يجعلك تنجذب له بقوة أو تنفر بشدة، رائحة الدخان، رائحة اليانسون في العرق البلدي ورائحة ال”سبيرتو” القوية في التكيلا المغشوشة، رائحة الحذاء الجديد والكتاب العتيق، رائحة الجرائد، رائحة الغسيل، روائح الغبار والدمار والرصاص والجثث المتفسخة والكبريت والدخان والحبر والقهوة والخريف والتربة الصالحة للزراعة ورمال الصحراء والأحبة والأعداء، نحن لا نفعل شيئاً أكثر من شم الأشياء ثم نحولها إلى العقل الذي يطلق اللسان قائلاً (يبدو أن القلب لا يهوى كذا ويحب كذا)، كل هذا هو تبرير مفصل لأشرح لأمي لماذا قلت لها عبر محادثة أخيرة على سكايب ( أحبك من كل أنفي )..!

شاعر سوري  ـ الامارات المتحدة | خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مع ستيفان زفايج

يبدو لي أن الكاتب النمساوي ستيفان زفايج هو الأكثر اهتماما بمتابعة خيبات الحب، وأثرها في …