أشعل السيجارة الثالثة وأترك جسدي للشمس والريح.
لا شيء سوى الأزرق أمامي، أملس كوجه مرآة. من خلف أصابع قدميّ المتجهتين نحو “إيران” في الجهة المقابلة من الخليج أراقب سفينة تزحف ببطء، بالكاد تتنقّل من أصبع صغير مفرود إلى آخر. أستوي جالسة. ساعة الموبايل ترسم التاسعة بتوقيت دمشق، رفضت تغيير الوقت، ما زلت أضيف إليه ساعتين لأدرك معنى الزمن هنا.
أتصل. أول كلمة يقولها أبي:
– أموري كلها تمام.. لا تشغلي بالك بشي.. قذائف ما في.. مبارح بلّش البرد.. والتلج نزل بلبنان بس لسّا ما وصّل لعنّا.
– هون 30..
وكعادته يجيب بالـ “إِيه” الخفيفة تلك التي تخرج من مكان ما في داخل صدره.
ابتسم وأنا أراه في مرآتي الداخلية وهو يقولها.
شباط.. ثلج.. عيد العشاق اقترب ودمشق فرشت طرقاتها بالأحمَرَين وهنا الحرارة 30..
عبث تام.
السماء نفسها، والشمس والهواء.. لكن الطائرات المارة فوق رأسي هنا مدنيّة، أما المدينة التي أحملها داخلي فطائرات سمائها أُخرى، صغيرة الحجم، سريعة ومموّهة الألوان.
أغمض عيني قليلاً لأنظر من بين رموشي إلى الغيم، تتغير الألوان داخل عينيّ من الأحمر للبرتقالي ثم الأخضر والأصفر الكامد، أرى النور دون أن أراه، أستعيد لعبة الألوان الداخلية مجدداً، أحاول البحث دون فائدة عن تفسير منطقي لما يجري خلف أجفاني المغلقة، أدرك فقط أن الألوان تتسلسل كتسلسل قوس قزح.
أريّح خدّي على ساعدي المرفوع إلى الأعلى فأتنفس رائحة جسدي، افاجأ به، وكأنني عرفته الآن.. أتلمس تفاصيله بعيني.. لم أهَمَلته كل هذا الوقت؟
أفكر بما اكتشفته بعد عام على بداية الحرب في لحظة انعتاق من كل الضوابط والرقابات بأنواعها الداخلية والخارجية والكونية:
– الحرب بتغير مفاهيم كتيرة.. وبتكشف شغلات مخباية جواتنا ما كنا متخيلين إنو موجودة فينا.. وبيجوز كنا نخاف نشوف إنو هيي موجودة جواتنا.. بس طلعت هيك الحرب.. مراية كبيرة.. أصفى من الميي..
أليست الحرب مرآة كهذا الأزرق أمامي؟ نحب .. نكره.. نقتل.. نذبح.. ونخون.. هل كنا سنجرؤ على فعل ذلك لولا الحرب؟ لولا ذاك الجزء من الثانية الذي يفصل بين الحياة والموت الجالس على الكتف الأيمن.. وربما الأيسر.. المهم أنه جالس على أحد الكتفين أو كليهما.. بثقة.. مدلّياً ساقيه نحو الأسفل.
لذا.. إمّا نحن ورغباتنا.. أو “هو”.
يطير نورس قريباً من الأرض التي تحتضن ظله، بقايا الملح المتخثّر تتلألأ على زغب ساعدي.
ألتقط الأصداف فأعود طفلة أطارد السرطانات على شاطئ رأس البسيط وألم الأحجار البرّاقة.
المياه صافيةٌ صافية، أمد يدي ببقايا رسم الحنة على كفّي لالتقط قطعة مرجان تحت باطن قدمي.
أتذوق طعم الملح وانا أقرط اللحم القاسي حول ظفري. بحرهم اقل ملوحة من بحرنا وأقل كثافة.. ولا شيء سوى صوت الريح والموج والطيور.
أفكر في سنوات عمري التي أرفض الاعتراف بها، بقي لي انجازٌ واحدٌ محددٌ فقط واكتمل.. بينما الباقي يمكنني القول: لا أندم عليه..
حين أنجز “ذلك الذي نويت خلقه” لن أشعر بثقل الزمن ولا بالتجاعيد التي بدأت تظهر حول عيني ولا بشعراتي الشائبة الثلاث وأنا أنظر في مرآتي، أحاول تهدئة نفسي بأنني املك الوقت الكافي لفعله، وأملك ما يكفي من الجنون.
***
نجلس في المساء وفي ايدينا السجائر وفناجين القهوة.. سورية ومصري وفلسطيني.. محور حديثنا داعش، فتاوى الأزهر، الثورات العربية، الأمان المفقود، الديكتاتوريات السلطوية والأنظمة المخابراتية.. ياسر عرفات.. وبالطبع زهران علوش وتغريداته وما يجري اليوم في دوما.
أعود إلى الغرفة، أطلي أظافري بالأحمر وأتقيء مشاعري وانطباعاتي على الفيسبووك.
أقرر: عندما تنتهي الحرب.. بعد سنة.. سنتين.. ثلاثة أو عشرة سأجمع هذا الهذيان في كتاب عن “يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية” طويلةً طويلة.
الشارقة 11 شباط 2015
موقع قلم رصاص الثقافي