مع نهاية حملات الرئاسة “الأمريكية”، وفوز الأكثر جدارة ديموقراطياً، تحول المشهد الإعلامي العربي، إلى جوقة من لاعبي “الترامبولين”، الذين يتنطوطون كل على حدة في محاولة لجعل رؤوسهم تصل إلى ارتفاعات متنافسة، وذلك لإثبات أمر هو من خارج مداركهم النظرية والممارساتية، ولندع المدارك النظرية – التنظيرية جانبا الآن، ولنتأمل بالممارساتية، علنا نقفر ولو ملمحاً بسيطاً عن إلمامهم بالموضوع على الأقل.
جلّ هؤلاء أي “أكثريتهم” الساحقة الماحقة، يعتبرون أو يعتقدون أو يظنون أو يؤمنون، أن الرئيس الأميركي هو رئيس العالم، أي رئيسهم هم أيضاً، وهو أمر يمس مصالحهم تماماً، ما يبيح لهم دخول حلبة النقاش ( الكتابة، الاستكتاب، التصريح، وبرامج التوك شو التعالماتية) كأعضاء دائمين في عضوية “مجتمع” العالم بما فضلهم الله على غيرهم من قوة الفهم واتساع السريرة!!، فانهالو علينا نحن الشعوب “غير المدركة” حقيقة لهذا الأمر، بتحليلاتهم وتوقعاتهم، وتفجعاتهم، وتحذيراتهم، وكأنهم يقرأون على رؤوسنا طالع فنجان قهوتنا مشيرين إلى تلك الخرائط الأفعوانية داخله، كدليل لا يقبل الشك على معرفتهم للأمر بكل دقة و وعي وخبرة في هكذا أحابيل “ديموقراطية” واعدين المتلقي بأنها لن تمر (تمرق) علينا وعليهم طالما هم موجودون على سطح البسيطة.
كل هذا مع الحفاظ على المقولات “التأسيسية” للنظر في شأن أميركا الاستعمارية، وديموقراطيتها المغشوشة والسّامة، وكذلك وهذا المهم الدعوة إلى النضال من أجل إبعاد أمريكا بما تمثله عن مناطقنا من أجل التخفيف من إهراق الدماء على الأقل.
طبعاً قد يخطر للمرء بأن هؤلاء على حق، فلطالما سلطات هذا الرئيس العتيد (وليس صلاحياته بالطبع) تستطيع المس بمصالحنا فعلينا إعتباره رئيسا لنا!!، ومناقشة وجوده في البيت الأبيض البيضاوي وكونغرسه البنتاغوني التجاري إلخ إلخ، ولكن المصيبة ليست في الحق والباطل الذي طالما ناقشوه وأشبعوه تقريعاً وإدانه، فالمشكلة تكمن في الصواب والخطأ الذي طالما “دحشوه” في مقارنة استبدالية عشواء مع الحرام والحلال، ليحولوا حتى الرئيس الأمريكي إلى عاهة ثقافية عليها الانصياع للخير المطلق الذي طالما اقترحوه على الرئيس الأمريكي كي يصبح سوياً أمام مواطنيه في شتى أصقاع الأرض . ولكنهم هؤلاء (ويا للصدمة) ليسوا على صواب والأنكى أنهم أيضاً ليسوا على حق، على الرغم من إشهارهم الحلال كواجهة لمقولاتهم العولمية.
إنهم ليسوا على حق أو صواب أو حلال، وتاريخهم في هكذا أمور يشهد على أنهم لا يفقهون يأمر الديمقراطية، أكثر مما يفهم شكسبير باللغة الصينية، فهم وعلى الأقل لم يناقشوا أو ينتقدوا أية عملية “ديموقراطية ” في بلادهم، لا أثناءها ولا بعدها، بل أثنوا عليها تمام الثناء والمباركة والوعد بمستقبل باهر بقيادة “العهد” الجديد/ القديم، الذي لم ينتبه أحد منهم الى معنى كلمة العهد نفسها، واستمرت في أدبياتهم بما يشبه كلمة الدولة التي تدول أي بمعناها الزمني فقط. تاريخ هؤلاء الأكثرية الساحقة الماحقة هو عدم ممارستهم المواطنية في دولة ناهيك عن تطبيقاتها من ديموقراطية وأحزاب وفهم واضح وعملي لمفهوم المصلحة العامة (التي تتجاوز بمسافة فلكية مفهوم وزارة الأشغال العامة)، واليوم يأتون لمناقشة فوز ترامب كأعضاء في مجتمع عالمي يرون في أنفسهم أن أهميتهم كمواطنين فيه هي أعلى بكثير عن أهميتهم كمواطنين في بلدانهم، خصوصا أن إبداء النصح والتصويب للسيد ترامب لا يهددهم لا جسديا ولا معنوياً لتبدو شجاعتهم الأدبية أو المعرفية في أعلى مراتبها إبهاراً، ليظهرون ككتاب رسائل قرية أهلها من الأميين.
على جانب آخر مواز… يريد هؤلاء إعطاء دروساً في الاجتماع الإنساني، وهم الذين لم يشموا رائحة المجتمع المؤسس (المجتمع المعاصرذي الدولة) فالمجتمع الأمريكي بالنسبة لهم هو أنموذج قابل للنقد والإنتقاد والتصحيح والتصويب، وهو لا يحتاج إلا إلى خبراتهم العملية المكتملة أخلاقياً كي لا يقعوا في أزمات كبرى قد تودي بأرزاقهم ورفاههم، وهذا الشأن تحديداً يجعلهم بعيدين تمام عن مناقشة أداء المجتمعات المتأسسة على قيم حقوقية معلنة ومحاسب عليها، وهذا فارق آخريجب أخذه بعين الأعتبار، فكلننا ننتمي إلى جماعات سكانية لا يتطابق تعريفها مع تعريف المجتمع بمعناه الموجود، وبالتالي فإن تجربتنا المعرفية الممارسة في هكذا حقل ما هي إلا مجموعة توقعات ناتجة عن خلطبيطة إعلامية إعلانية تملأ صفحات مطبوعة أو ساعات بث تلفزيوني، فالمجتمع هو مجموعة حقوق معايرة قابلة للممارسة لم نقربها ولو لمرة واحدة.
في سياق آخر، ظهر أن القوة الحقيقية للولايات المتحدة، التي تبطش بالجميع، هي قوة الإنتاج، وهي المعيار الأكثر ثقلاً وتمايزاً بين كل المعايير العلمية والأخلاقوية، لم يعش أحد هؤلاء بصورة أصلية عيشاً وممارسة ذلك الإنتماء الى أمة قوية بإنتاجها، ولا حلموا بإنتاج منافس يضعهم على منصة واحدة معها، واليوم يناقشون موضوع الرئاسة من باب تأثرهم بالقوة هذه وكأنهم شركاء بالإنتاج وبالقوة، وكأن بكلاماتهم المتدفقة حول الرئاسة الأمريكية سوف تصنع وعياً فائقاً أو متفوقاً سيتجاوز (في مرحلة ما) هذه القوة بحيث يصبح إنتخاب رئيس غير ترامب من المسلمات الثقافية عند شعوب لا تستطيع إنتخاب رئيس بلدية.
السياق الأخير هو الديموقراطية، وهو سياق ثقافي مجتمعي يمارسه أعضاء “المجتمع” بتلقائية حقوقية دون خوف أو وجل، وهذا ما يجعل هؤلاء بعيدين عن الموضوع برمّته، ففهم الديموقراطية ليس موضوعاً نظرياً فحسب ولا هو وصفة ندونها من معلم الطبخ على شاشة التلفزيون، إنها مسؤولية يمارسها ويتحمل نتائجها كل أعضاء المجتمع بناء على تعاقدية وعلانية مقومات وجودها، وهنا يبدو للمعلقين “العرب” على فوز ترامب، أن فوزه سوف يأكل الأخضر واليابس، ولسوف يفعل ترامب الأفاعيل في أعدائه الديموقراطيين واللاتينيين والعرب والمسلمين ال× إلخ…. بحيث يتطابق تصورهم المحلي للديموقراطية مع وهم ما يمكن أن يصدر عنه من إنتقام وثأر يثلج صدره ويدافع عن فخامته، إنه تصور طبيعي تماماً، فهذا ما يمارسونه فعلياً على أرض تجمعاتهم السكانية.
الشعب الأمريكي قرر من هو رئيسه، وهو أدرى بشعاب واشنطن، وهناك برلمان من غرفتين يستطيع ضبطه وإحضاره، أما أن نصحح للشعب الأميركي رؤيته، ونحذره من مغبة هذا الإختيار، لا بل نناقش أن نناقش النتائج “المحتملة” عن هذا الإختيار… فما هو إلا (نطوطة) فوق ترامب… بولين … تشبه كثيراً لقطات الفيديو المنزلي الطريفة.
مجلة قلم رصاص الثقافية