زيد قطريب | سنحتفي الآن بالأعداء!.في الشعر والسياسة والحب، يعود الفضل للأعداء في دفعنا لانتزاع النصر. أولئك الذين حرضونا لأن نصبح مشدودي السواعد والأذهان والنصوص، يستحقون بعضاً من التكريم في نهاية المعركة أو الجولة إن صح التعبير!. ألم تشاهدوا الجنرالات وهم يتبادلون التحيات أمام جثث بعضهم في الحروب الكبرى؟.
لنتخيل المشهد دون أعداء!. لنتصور حالات الاسترخاء والكسل التي ستبيد المخيلات عن بكرة أبيها بسبب التشابه والاستنساخ وتدوير النصوص وإعادة كتابتها على شكل “ستوكات” إذا ما تحدّدنا بالحديث عن الأدب؟. ألا يستحق ذلك أن نحكي عما نسميه هنا بالكتابة العدوانية التي تستمد مشروعيتها من النسف بهدف الإشادة والانقلاب بهدف الكشف؟. أليس الركون هو من قضى على الأسئلة طيلة أربعة عشر قرناً من البصم بالأصابع العشرة فوق مساحات البياض؟. الاحتفاء بأعداء المخيلة هو عرفان بالجميل تقتضيه نزاهة المواجهة مع من يتمسكون بإعادة النصوص إلى الوراء!. أولئك الذين يشدّون باتجاه القهقرى، كان لهم الكثير من الفضل عملياً في اندفاعةالقصائد إلى الأمام، ومن لا يصدق فليعد إلى تاريخ من نسميهم بالشعراء المعلونين الذين كانوا ينعطفون فجأة خارج السرب كي يحسموا المواجهة بالضربة القاضية.. في كل هذا يبدو الأعداء أصحاب مكانة عالية ولهم فضل فيما يمكن أن تصل إليه كتابات اليوم إن شاءت أن تُصنف ضمن الكتابة العدوانية، تلك الكتابة التي لا تتوانى عن الضغط فوق زناد الحروف حين تحين ساعة الاندلاعات الكبرى داخل المخيلة.. ألا يشبه هذا التصوير تراجيدية السياب الذي كان ينعطف فجأة أثناء المشي فكتب في إحدى الانعطافات قصيدته الشهيرة “مطر” ثم تورط في الثانية بدخول الحزب الشيوعي كما يقول الماغوط على سبيل الدعابة؟.
نحتاج فعلاً إلى الاحتفاء بالأعداء وكل أنواع العسس والجواسيس وقطاع الطرق الكامنين في حقول الثقافة ومؤسساتها التي تثير الشفقة بسبب ضحالة اليمّ الإبداعي، لأنهم عملياً يجعلوننا نُغرم بالغوص في الأعماق!.
بشكل ما، فإن تشابه النصوص الشعرية يمكن تفسيره بانحسار الكتابة العدوانية التي تصر على رفع راياتها فوق التلال علامةً على النصر، والانحياز إلى العيش في السهول وتحت الظلال، وهو ما جعل القصائد تبدو كأنها مستوردة مباشرة من الترجمات العالمية التي وصلتنا متأخرة مع أن الأوربيين والأميركيين قد كتبوها منذ أكثر من قرن.. بالتأكيد، المشكلة هنا أن النص يعيش في الهيولى بلا أعداء، وهو لم يشأ أن يرفع منسوب الأدرينالين قليلاً كي يراهن على الخصوصية التي تجعله تلقائياً يغرد خارج السرب!. ألا يمكن القول إن النصوص قد تشابهت بشكل غريب مع أن المؤلفين كثر؟.
في العراق والشام ولبنان، هناك حركة إهليلجية للقصيدة تبشر بولادات غير متوقعة على صعيد ديوان العرب، خاصة أن هذه المنطقة تاريخياً شهدت حركات تحرر هائلة على صعيد النص الشعري كان أبرزها ما فعله المعري والمتنبي وأبا نواس بالإضافة إلى صنّاع الموشحات الأندلسية وغيرهم.. صحيح أن المسألة مازالت في طور التجريب، لكنها المخاضات التي تبشر بالكثير من الآلام والانفراجات معاً تبعاً للمحظورات التي تجابه المخيلة وتصر على انتاج نوع معين من الحساسية إلى درجة يمكن فيها القول إن اللغة العربية باتت غير قادرة على التعبير بشكل كافٍ وشافٍ عن الفكر والشعور نظراً للمعجم الذي اخترعه الماضويون بقبائلهم الكثيرة يساندهم في ذلك السياسيون المغرمون بقصائد المديح التي دبّجتها اللغة نفسها في أسوأ تحالف بين هذه الأطراف!.
في العراق، شاء شعراءٌ الذهاب بالقصائد إلى حافة الموت، باتجاه حقول الألغام والسيارات المفخخة، كي يضعوا النص وجها لوجه أمام الكارثة!. كان من الضروري شقُّ عصا الطاعة على نصوص المنابر والصالونات الدافئة وانتشال القصائدمن حالة التوحّد التي تعصف بها لينجز أولئك الكتاب اقتراحات في الكتابة تستحق الوقوف فعلاً.. على الصعيد نفسه، فإن شعراء في الشام يأملون بحدوث ما يشبه عمليات استبدال نقي عظام ضخمة لهياكل القصائد بعدما أصيبت بأمراض العضال، وهو ما أوصلهم إلى التمرد على اللغة التي قالوا إنهم لب المشكلة لأنها عطلت مشاريع الإصلاح الفلسفي ودمرت احتمالات انقلاب النص الشعري بشكل جذري بسبب ذلك التحالف الثلاثي الخطير الذي ضم: رجال الدين ورجال السياسة ورجال اللغة!.
تاريخياً، لم يكتشف النار والعجلة وقانون الجاذبية ودوران الأرض حول نفسها والشمس، أولئك المهادنون المؤثرون للسلامة، في حين كانت الكتابة العدوانية تشق عصا الطاعة.. وتكتشف العالم.. أو تخترعه!.
شاعر وكاتب سوري / خاص موقع قلم رصاص