ضياء الجبيلي | ” لو لم تفعل أمريكا شيئاً سوى صناعة الشطة، لكان ذلك أفضل إنجازاتها ! “
يقهقه زملاء سراج الدين الملتحفين بقمصلات عسكرية. كانوا يجلسون حول جذع نخلة مشتعل، قريباً من النهر، في ليلة آذارية باردة. ثمة عيارات نارية بالكاد يسمع صوتها في الجوار، فكل شيء مسيطر عليه تقريباً من قبل الثوار، كما تشيع ذلك إذاعة العراق الحر على الموجة القصيرة، بين فترة وأخرى :
” هل تعلمون ؟ ” ينبري سراج من مكانه، حيث يجلس على صفيحة سمن، ليس بعيدا عن النار، فيلتفت إليه الآخرون باهتمام ضئيل، متوقعين الترهات نفسها التي اعتاد أن يتفكه بها، كلما ساد الصمت بينهم، فقال قبل أن يطلب أحدهم أن يلعنوا الشيطان، لأنه يستغل فترات الصمت المبهمة تلك والمفاجئة التي تسود بين أكثر من ثلاثة أشخاص :
” القنبلتان النوويتان اللتان ألقاهما الأمريكان على هيروشيما وناكازاكي هما بالحقيقة عبوتا شطّة حارة ماركة الديك الأحمر ! ”
أحياناً، يخرج عن الإطار الذي يظهر فيه، كأنه ستاند آب، يروي يومياته الهزلية عن الشطّة والأكل الحار، بطريقة تفتقر إلى الحرفية، ويجنح نحو الجدية، بينما هو يفصح عن أمنيته، للمرة الألف، بالهجرة إلى أمريكا، والعمل في مصانع لويزيانا الشهيرة، ويعيش هناك عيشة رغيدة، قريباً من روائح التوابل الحارة والشطة اللذيذة والأشهر في العالم.
” لماذا لا تذهب إلى الهند ؟ ” يسأله أحدهم ساخراً بمرح : ” هناك حتى الآيس الكريم حار، من المؤكد أنك ستتحول إلى تنين يا صديقي “
تلمع في السماء اطلاقات وتخبو سريعاً. يتفرق الأصدقاء كلّ إلى بيته. وفي صباح اليوم التالي يستيقظ سراج الدين على صوت لغط في الشارع، قبل أن يفهم من زوجته أن الثوار فتحوا مخازن المؤن على ضفة الشط للناس، لكي يأخذوا من الأغذية المخزنة فيها، والتي نُهبت من الكويت في وقت سابق، بعد احتلالها من الجيش العراقي. فكّر سراج بالذهاب إلى هناك، لعله يحصل على صندوق شطة، أو كمية من التوابل الحارة، لا بد أن تكون مخزونة في ذلك المكان. هرع من فوره، ووصل سريعاً، إذ لم تكن المسافة بين المخازن وبيت ذويه طويلة. حشر نفسه بين حشود الناس الذين راحوا يتناهبون مختلف السلع الغذائية، رز، طحين، فاصولياء، عدس، بُن، حليب، نشاء، سمك معلب، زيتون، مخلل، صابون، مساحيق تنظيف، شوكولا، علكة. كل تلك الأشياء لم ترق لسراج الدين، فقد كان يعرف ما يبحث عنه، وقد عثر عليه أخيراً في أحد المخازن، وهو ذلك النوع المعتق من الشطة الحارة، التي يبول منها الحمار دماً، كما يتبجح أمام أصدقائه دائماً.
كان هناك بعض عبوات الشطة الزجاجية المكسورة، التي أثارت رائحة تحرق العيون، وتتحسس الأنوف من قوة لذعها، وعلى ما يبدو انها هي التي قادت سراج الدين من أنفه إلى ذلك المخزن. وفضلاً عن صناديق الشطة، هناك الكثير من التوابل الحارة المستوردة من الهند، وصناديق كجب حار، وفلفل أخضر معلب نقل منها سراج كميات كبيرة أثارت حنق زوجته، ففي الوقت الذي كان الأزواج ينقلون إلى بيوتهم الرز والطحين والعدس والسمن، كان هذا المخبول يقضي نهاره كاملاً بنقل نيران الأمعاء تلك، ويملأ بها البيت الذي أصبح بقعة متبّلة من جهنم، حسب إفادة جاره التي أدلى بها في مديرية الأمن العامة، حينما اعتقل سراج الدين بعد استعادة المدينة من الثوار بتهمة المشاركة في انتفاضة آذار 1991 .
(2)
عندما كان في الثانية من عمره، غافل أمه على الغداء وأكل إصبع فلفل حار. تفلفل فمه، ودعك عينيه، فكادتا أن تحترقا، آلمه لذع الحرارة، إلى حدّ تصور معه الأب موعان البُن الذي يكسو حدقتيه، فغطس رأسه في طشت ماء، وأجبره على فتح تلكما العينان اللتان وجدت الجدة طريقة أقل عنفاً لتبريدهما، فقد وضعت فص ثلج في قماشة وراحت تمسح به على جفنيه وتنفخ عليهما، بينما هي تقرأ : ” يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ” وكمن يلهو عن خوفه بِعدّ الخراف، كان سراج ينشج مترنماً بالكلمات التي رافقت خطواته الأولى المتأخرة : ” تاتي.. توَّاتي ”
تكررت الحالة في سنته الثالثة مرتين، الأولى مع أصبع فلفل أخضر، والثانية مع شطة فلفل أحمر، لكنه كان أقل تضرراً في الحالتين، وصار أقرب إلى الاعتياد في المرات التي تلتها. إلا أن العلامات الأولى لنهمته ظهرت في أحد الأيام، حينما بلغ العاشرة من عمره، التهم سندويتش فلافل، كان رفيقاه قد دسا فيه ثلاثة أصابع فلفل، آملين أن تحرق فمه، ويكون ذلك مقلباً لن ينساه مدى الحياة. إلا أن شيئاً لم يحدث لسراج، حتى أنه لم يلحظ أن سندويتشه ملغوم بتلك الكمية التي تكاد أن تكون كافية، لجعل الدخان يتصاعد من رأسه وأذنيه. كان يأكل بمتعة، كما لو أن الحياة صارت أجمل، بينما هي تحترق من فمه حتى شرجه. وحين سألاه إن كان ثمة شيء يحترق في بطنه، نفى ذلك، وقال أنه لم يذق طعاماً ألذ من ذلك السندويتش.
بمرور الوقت، صار سراج الدين لا يجلس إلى مائدة تخلو من الطعام الحار. وقد أكسبه ولعه بالفلفل ومشتقاته لقب ” الهندي ” الذي صار ينادى به حتى في البيت، من قبل أفراد اسرته، فضلاً عن المدرسة وساحة الكرة، أو حينما يعوم مع زملاءه في مياه النهر. الأمر الذي لم يكن ليثير استياءه، أو يقلل من كونه عراقي الأم والأب، وسليل أجداد ضربت جذور عراقيتهم في أرض البصرة منذ مئات السنين. فكما يناديه الآخرون بهذا اللقب – الذي لا يدعي نسبته إلى الهند، أو تشبيهه بالهنود من ذوي السمرة الكالحة، بقدر ما يؤكد ذلك على نهمته غير الطبيعية تجاه الأكل المفرط بالحرارة – فإن هناك الكثير غيره ممن يُنبزون بألقاب أخرى، كـ ” بُلّة الصيني الذي لا يقتني سوى السلع الصينية الرخيصة، و” عباس النرويجي ” الذي كان مقيماً في النرويج وطُرد منها بعد خروجه من السجن، حيث أمضى عقوبته هناك بتهمة التحرش الجنسي بالأطفال، و” عطية الأفريقي ” الذي يدعي أنه يستورد مساحيق التنشيط الجنسي من أفريقيا.
(3)
” تكلم هيييي ! ” يزعق ضابط التحقيق بوجهه الذي اختفت ملامحه خلف فوضى الدم والشقوق وآثار بوكسات الحديد : ” أنت عراقي ؟ “
يقسم سراج الدين المحشور في زاوية معتمة من غرفة تحت الأرض، بالمقدسات والأولياء الصالحين، أنه عراقي، وأبوه عراقي، وأمه عراقية، وأن عراقيته تجتاز جده السابع عشر إلى كَلكَامش. يفعل ذلك بينما هو يحشر رأسه بين ركبتيه، ليتحاشى المزيد من بوكسات الجلّاد الذي كان يكرر كلمة : ” اعترف كلب ” مع كل بوكس ودمغة ورفسة يومئ مرؤوسه بتوجيهها.
” بماذا أعترف ؟ “
” بأنك هندي ” يجيبه الضابط بلهجة آمرة لا تخلو من وعيد بتهشيم أسنانه إذا ما انكر هذه المرة بأنه هندي جلف جاء من وراء البحار، من بلاد القرود والفيلة والتوابل الحارة، وملء مساماته رائحة ثوم زنخة يريد أن ينتن بها البلد : ” اعترافك سيوفر لك تسفيراً عادلاً إلى بلدك، بدل أن تموت هنا مثل كلب.. أعدك “
هل يمزحون معه ؟ أم يضحكون على عقله، لكي يقول لهم أنه هندي فعلاً، ثم يسوقونه إلى المشنقة بعد ذلك، ومن أجل ماذا ؟ من أجل شطة وتوابل لعينة مهمتها في هذه الحياة هي تقريح المعدات، وإحراق الأمعاء والشروج، وتحميص البواسير. فطوال حياته، بدلاً من أن يلهث وراء النساء، مثله مثل أغلبية الذكور، راح يعشق الشطة. وإذا أعجبته امرأة وصفها بأنها حارة مثل شطة، كأنه يصف ظهيرة تموزية من ظهيرات البصرة القائظة، وليس امرأة جميلة غمزت له، فكان من سوء الحظ الذي رافقها في ذلك اليوم، أن شخصاً نعتها بذلك الوصف، فأحست كما لو أن لذعاً اخترق طبلتي أذنيها بإحساس لاهب.
قال بصوت يائس منهك خرج من بين ساقيه : ” لكني لست هندياً ! “
ابتكر جلاده طريقة جديدة بالتعذيب :
” سأرى إن كنت هندياً حقيقياً أم مزيفاً يا عبد القضيب ” يقول له الجلاد.
” هل ستشنقني ؟ ” يسأله.
” لا، سأقيس هنديتك فقط ” يجيبه الجلاد وملء فمه قهقهة خبيثة.
كان يحدث جروحاً في جسده ويمرر عليها اصابع فلفل شديد الحرارة، وعادة ما تكون تلك الجروح في ظهره، لكي لا يطول لسانه طعم الفلفل. الأمر الذي كان عذابه أمض عليه من تبضيع ظهره بموس عمليات جراحية، إذ كان سراج يبكي حسرة لمجرد أنه لا يستطيع لعق جراحه، والحصول على تلك اللذة العارمة التي توفرها حرارة الفلفل.
” الآن، أثبتت أنك هندي بمعنى الكلمة ! “
(4)
بعد عام قضاه سراج الدين في السجن، قُتل خلاله أغلب المعتقلين الذين كانوا معه من دون محاكمات، أو ماتوا من فرط التعذيب، صدر بحقه حكماً بالإعدام شنقاً حتى الموت. مرض، نحل، وبرزت عظام وجهه على نحو ما يبدو عليه ضحايا المجاعات، حتى أن سجانيه أشفقوا عليه، وتوقعوا موته قبل أن يصل إلى حبل المشنقة. لم يزره أحد من أهله طوال فترة سجنه، باستثناء زوجته التي، كما لو أنها تكلفت عناء تلك الزيارة لا لأجل شيء، سوى سماع وصيته المتكررة بالحفاظ على كنزه الجهنمي، سائل الجحيم ومساحيقه الكريهة، عشقه الأول والأخير الذي أخلص له وتفانى من أجله، وها هو الآن يقذفه بذروق التنانين الملتهب. وهي منذ ذلك اليوم، قبل ثمانية أشهر، لم تعد لزيارته أبداً.
قضى سراج ليلته الأخيرة، في زنزانة تضم محكومين آخرين بالإعدام. سمع أحدهم يرتل بصوت متهجد : ” يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ” كما لو أنهم سيقتادونه إلى المحرقة، وليس إلى حبل يتدلى من علوّ وينتهي بأرجوحة الموت التي تسمى شناطة. تذكر جدته، والمرة الأولى التي أحرق فيها الفلفل حلقه وعينيه، وكمادة الثلج التي كانت تمررها على جفنيه وهي تقرأ تلك الآية القرآنية. دمعت عيناه، تمنى لو يتوقف قلبه في تلك اللحظة، وكانت أمنيته الأخيرة أن يتذوق من شريحة مانجا حارة متبلة بالخردل. فاجئه صوت جهوري حاد وهو ينادي : ” ابراهيم اسماعيل ناجي ! ” فنهض السجين الذي كان يطلب بتوسل من النار أن تكون برداً وسلاما على ابراهيم، نهض متثاقلاً، واقتاده حارسان عبر الممشى المبلط بكونكريت صقيل إلى غرفة الإعدام. لم يكن يعرف سراج تسلسله، وربما لم يعد يعبأ بذلك ما دام أنه سيموت في النهاية. لكنه، وبعد أقل من ثلاثين دقيقة، سمع صوت المنادي نفسه يتلفظ اسمه بنبرة إعلانية، كأنه يكشف بذلك اسم احد الفائزين بقرعة.
اقتاده نفس الحارسان. كانا يمسكانه من ذراعيه، متهالك القوى، بالكاد يتنفس، يسح بقدميه على أرض الممشى المفضي إلى غرفة الإعدام.
” أشكر ربك يا رجل ” قال المنادي بأسماء المحكومين. كان يمشي ورائهم بكامل قيافته، حليق الذقن، كث الشارب، تنبعث من ثيابه رائحة قولونيا لاذعة : ” أشكر معبودتك البقرة أن لكم بلاداً تحترم الإنسان مثل الهند، وتقدر مواطنيها إلى هذه الدرجة. فعلى الرغم من عدد نفوسها الهائل – مليار ؟ أليس كذلك يا عبد البقرة ؟ – لكنها طالبت بحياتك. لا بد أنك شخصية مهمة، لكي يطالب بك رئيس وزراء بلد عظيم مثل الهند، أم أنا مخطئ ؟. صحيح، يقال أن بعضكم يعبدون الأعضاء التناسلية ! هل حقاً ؟ هل حقاً ذلك ؟ أم أنكم تفعلون ذلك لمجرد رغبتكم بالتقبيل ؟ “
اجتاز الحارسان غرفة الإعدام، ودخلا به ممراً آخر يفضي إلى رحبة، حيث تنتظره هناك سيارة مرسيدس بيضاء، وثمة رجل بالزي الرسمي، ذو سحنة سمراء، يلصق باطنا كفيه ببعضهما، إلى مستوى الصدر، مبتسماً، هازاً رأسه بثناء أمام ضابط أمن عراقي من دون رتبة.
” لا تنس يا عبد البقرة ” همس حاجب الموت في أذن سجينه السابق مودعاً : ” سلّم لي على اميتاب باتشان !
كاتب وروائي عراقي / خاص موقع قلم رصاص