عمر ح الدريسي | اليوم ظُهرا، وبعد وجبة الغذاء.. وأنا متوجه لتناول فنجان “القهوة”… علّه يُزيح الضباب عمّا أراه من حولي.. وتتضح الرؤية لما بقي من يومي، وعليه، وأنا أتأمل جمال زرقة السماء وصفاء الشمس وخيوط أشعتها الذهبية المتسربلة في أناقة خارقة على هذا الكون، وعودة الجو الجميل الذي طالما افتقدناه بسبب التغيرات المناخية، ولما يزيد عن أسبوعين، بالرّغم من أن الفصل “ربيع”، فوقع بصري على لافتة، مكتوب عليها، “يُنظم.. أيام لإزالة العذرية.. لأطفال…”، لا تهمني رسالة اللافتة، بل ما لفت انتباهي أكثر هو عبارة “العذرية” وهل بقي لها مضمون في مجتمع ما بعد الحداثة؟!.
هذه العبارة، أيقظتني وأرجعتني أعود إلى واقعي، الواقع الذي لا يرتفع ولا يُعلى عليه، المزدحم بالعاهات والمتراكم بالخصاص والمتقاطع بالمتناقضات، مما جعلني أستحضر المعنى التالي ل”العذرية؛ التي هي ليست مجرد غشاء”إنها البكارة…من البكور، وهو أول الصباح، وبداية إشراق النور، بداية تفتح الزهور، والندى لايزال فوق الأوراق، وبدأ فواح العطر والشذي”، “إنها البكارة والبكور في كل شىء”؛ “فهناك عذرية النظر، وهناك عذرية السمع، وعذرية اللسان، وعذرية المشاعر والأحاسيس، وعذرية القلب…”، ولا فرق إطلاقا فى ذلك، بين كل إنسان، ذكرا كان أو أنثى… !!
ذالك اللافرق هو ما جعلني أساسا، أُسائل نفسي قبل أي كان، بتجرد وموضوعية علمية وفكرية، قدر الإمكان، على اعتبار أنه، “ليست هناك معرفة جاهزة ونهائية”، حسب الفيلسوف ألان جورافيل A.Juraville، أو كما يرى شوبنهاورSchopenhauer، “دهشة الفيلسوف هي دهشة أمام الأمور الاعتيادية، والتي تكتسي حُلة البداهة، وهي دهشة أمام الأشياء ذات الصبغة الأكثر عمومية، وجعلها موضوع التساؤل، وتحويلها إلى قضايا إشكالية. أما دهشة العالم، فهي دهشة أمام أمور جزئية نادرة ومنتقاة”.
قبل التماهي العاطفي والمعتقد الروحي الخاص، وقبل كذالك، أي شوفينية لما يعتقده غالبية من حولي أو ما يوافقني فيه أو يخالفني عليه –وبكل احترام- كل إنسان مهووس بالسؤال في هذا العالم مثلي، كما قال كارل ياسبرس، هو أن أطرح السؤال المهم والأهم، والأكثر ضبابية مرة أخرى؛ سؤال على صيغة ما أورده الفيلسوف طه عبد الرحمان، “ليس بـالسقراطي للفحص، وليس بالأوروبي للنقد”: لم الأطفال هم –وحدهم في هذا العالم- من لا زالوا عُذارَى، هل يغيظ الكبار أن تبقى فئة ما، أو أحدا منها على عذريتها الطبيعية، وما يضرهم أن يبقوا بتميزهم ذلك؟!
وهل من مهمة ما أو معنى يتبقى لـ “العذرية البيولوجية” في حال انفضاض “العذرية التفكيرية والفكرية”، إن كانت الرغبة والسلوك، والواقع والممارسات والمظاهر، وحتى اليقينيات اليومية، التي يفرضها الواقع الصّعب والمرير، أصبحت أبعد ما تكون، حتى أن تُفكر في صواب “العذرية” هذه، اللهم عند التباهي والتفاخر بِـ نقاوة و”طهرية” المَقصد والسّلوك، وهو أكثر ما يكون؛ نفاق بَائِن مُستهجن، لذر الرماد في العيون، التي لا زالت تتبنى قبول سيطرة “العقل الجمعي” والخضوع له، رغم فظاظته وجهله الرافض لكل ما هو حقوق فردية؛ شخصي، عقلي ومساواتي ومنطقي وعادل، كما يقول الكاتب عبد الله القصيمي: “كل الشعوب تلد أجيالا جديدة إلاّ نحن ، فنحن نلد آباءنا وأجدادنا”.
عن أية عذرية اليوم يتحدّثون، وهل هي وحدها، “دليل الشرف”، وأي “شرف.. !!” ، أهو “الشرف البيولوجي” وحده كاف ليكون الفرد شريفا.. علما أن “العذرية البيولوجية” أصبحت تُزال وتُعاد طبيا في ثوانِ، وبفضل العلم أصبحت أيسر مما كانت تُفَضّ أو فُضّت في ثوان جهماء نفسيا وصحيا، في لحظة انتشاء لإعلان الحفاظ على ذالك “الدَّيْن او الإٍرث المُجتمعي”،”الشرف البيولوجي”، وهو “دَيْن وإرث اجتماعي أبدي” ،والتوقيع عليه لا يكون إلا بخاتم المجتمع، الذي لا يرحم بغير سواه، وما إعلان وثيقة الدم –التي كانت سائدة في تقاليد الزِّيجَات- لأكبر دليل، إلى سنوات قبل اليوم، ويكون ذالك على الملأ، حيث “بُقع الدَّم” هي الأقدر على إبعاد “العار”، وتُصبح أصدق أنباءًا من كل كلام عن “الشرف”.. !! وهذا ما يفرض السؤال التالي، أليس بهكذا سلوك يصبح الإعتداء على الحرية، والحرية الشخصية وكل ما هو شخصي، يطرح تساؤلا كبيرا آخر..؟!
غير إذْ أتى الفض لـ قدر مقدور، في لحظة اغتصاب، والقليل ما بينهما، أن يأتي فظّا طبيعيا، لفعل طبيعي، أو عبر أثر عارض ما، وهنا يبقى الدَّيْن، وتنضاف عليه قُروض الكتمان، ويصبح الفرد مُجبر أن يؤدي دوما ثمن تأخر خلاص الدَّيْن، وثمن تأخر قروض الكتمان… وهذا يسري اجتماعيا مهما ادعى الفرد بأنها مسألة شخصية، ومهما آمن بعلو ثقافته، فثقافة المجتمع رغم تخلفها المريع، تبقى سائدة، وغالبا، ذات الفرد المثقف، ما يصطدم بها، لا لشيء، إلا لعدم منطقيتها وغلوها في الجهل، مما يجعلها تخلق له مطبّات وعوائق، تجعل حيرته تزداد باطراد…؟!
وهل “العُذرية البيولوجية” هي الدليل على “العذرية الطُهرية”، يعني عذرية الحفاظ على الذات والروح والنفس والعواطف.. بصدق وأمان وقناعة واقتناع..!!
وعن أية عذرية فكرية في عالم اليوم، يعني هل هناك من يقرأ تصرفك بعذرية، طبقا لما يراه كتصرف وحسب؟؟ أم أن تصرفك العذري يجعلهم أكثر طمعا في فض عذريتك، لاستغلال بواكرك وفقدك طهارة التفكير لديك.. وجعلك أنت أيضا لا تؤمن لا بالعذرية ولا بالطّهارة، أعني: الأفكار التي تُصَدّقْهُم الأفعال والأعمال والتّصرفات ويشهد عليهم الواقع قبل النّوايا”، وما أكثر العلل الإجتماعية والأسقام الفردية، إلا وأتت من فقد هذا الإيمان..!!
مجتمع ما بعد الحداثة، بغالبية أفراد لا يُؤمنون إلا بما هو مادي صرف، لا يترددون في إجبارك على البرهنة ماديا على “عذريتك”، لكي يصدقوك على أنك تنتمي إليهم، ولا يهمهم في ذالك، بالنّظر إلى رغبتهم المادية الجامحة في استغلال عذريتك، أن تتحايل عليهم في ذالك، وتحايلك هذا، لا يجب أن يلحظوه أو يكتشفوه، وحتى ولو تشككوا في ذالك، المُهم أن لايكتشفوا دليلا ماديا ضد ما تدّعيه.. علما بأن الدليل نفسه هذا، هو الذي يرفُضونه ولايقبلون به، ولو حتى بالتفكير فيه، وبالتالي تُصبح الطرق التي أقنعتهم بها، ويقتنعون بها، كلها دلائل واضحة على عدم الطهارة وانفضاض العذرية كل يوم وكل لحظة..!! وهذا ما لا يريد الاعتراف به، لا الفرد مع نفسه ولا المجتمع مع مكوناته، حيث تبقى “الحقيقة” دوما صادمة، على ذكر الفيلسوف فريديريك نيتشه، ولا يريدها أحد، حيث هي مُرعبة للجميع.. !!
فريديريك نيتشه، يقول: ” حين نمدحُ ما يلائم ذوقنا، هذا يعني إنّنا نمدح ذوقنا الخاص، ألا يخالف هذا كلَّ ذوقٍ سليم؟”، عبارة تعبر عن التناقض الواقعي والتعارض في كل شيء، ربما الانفصام –المُكفّن بالنكران المطبق- في الشخصية الفردية، يضيف نيتشه: ” على من حرّر عقله أن يتطهر مما تبقى فيه من عادة كبت العواطف، والتلطخ بالأقذار، لتصبح نظراته براقة صافية. “، أو هو ربما الشيزوفرنيا الإجتماعية الطافحة والمستفحلة في العقل الجمعي…!!
غير أن إدغار موران ، يقول”إن الإنسان لايمكن تعريفه من خلال فردانيته، أو بانتمائه إلى الجنس البشري، أو بكونه لا يمكنه العيش خارج مجتمعه، بل الإنسان هو كل هذا الثالوث الذي لايتجزأ”، وحسب موران، “الأخلاق ذاتية” وتحكم الشخص، وصورة نسعى من خلالها لنكون صادقين وتَجَلّ يراه الآخرون، وهو ما يصفه بـ “الأخلاق الذاتية المنصهرة في المجتمع”، لهذا يضيف موران، انهارت دول لأن الأفراد لم تكن لهم فيها أخلاق وحرية… !!
ثقافات