عمّار المأمون | يعتبر الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي إحدى أهم التجارب الأدبية في العالم، تجربة يتداخل فيها التاريخ والفلسفة والواقع بل وحتى نرى فيها استشرافاً للمستقبل، فالبعض يرى فيه مبشراً بثورة أكتوبر في روسيا التي أطاحت بالقيصريّة، أعمال دوستويفسكي ترجمت إلى الكثير من اللغات، وهو إلى جانب الماركيز دي ساد من مؤسسي العدميّة حسب ألبير كامو في كتابه “الإنسان المتمرد”.
معضلة الجدار
تمتلئ روايات دوستويفسكي بالتأملات النفسية والوجوديّة في سبيل الإجابة عن سؤال “هل نحن أحرار؟”، ومن باكورة أعماله روايته “رسائل من تحت الأرض” التي صدرت عام 1864، حينها لم يبدأ دوستويفسكي بعد بكتابة أعماله الكبرى، وقد صدرت الرواية هذا العام بطبعة جديدة عن دار نينوى بعنوان “في سردابي”، ترجمة عبدالمعين الملوحي، لنقرأ فيها صرخة رجل يغوص في أعماق ذاته ضجرا وكراهيّة، مثرثراً حول لا جدوى حياته، طالباً منا نحن القرّاء أن نَعي محنته التي تمثل خلاصاً للجميع .
تُقسم الرواية إلى قسمين، الأول بعنوان “في سردابي” والثاني بعنوان “ثلج يذوب”، وفيها يحكي دوستويفسكي قصة رجل مهمّش حبيس غرفته الحقيرة في سانت بيتسبرغ والأهواء والتحليلات الفلسفية والنفسية التي يقوم بها، محاكما ذاته والآخرين، ونقرأ ذلك على لسان الراوي بصيغة المتكلم، الذي يوجه هذيانه للقراء معلنا منذ البداية أنه مريض وعليل، ويشرح لهم وجهة نظره عن نفسه والداء الذي أصابه، مغرقا في توصيف الضجر واللاجدوى من الحياة والسعادة، بل نراه يطرح التساؤلات عن حياته التافهة وعن احتقاره لنفسه قائلا “أيستطيع رجل قادر على التلذذ بمهانته الشخصيّة أن يحترم نفسه؟”، ليشرح الراوي معاناته الشخصية بوصفها صراعا مع ألم مستديم، يضرب إثره رأسه بجدار لا يتزحزح، وخاضعاً لسلطة طبيب أسنان مزاجي، لينتقل بعدها إلى التاريخ والسياسة مركزاً على الطبيعة البشرية التي يرى القتل عنصراً ثابتاً فيها، فمهما حاولت “الإنسانية” إدانته إلا أنها تمارسه، لنتلمس في النص حضور آرثر شوبنهور (1788-1860)، وخصوصاً أفكاره عن طبيعة العالم في كتابه “العالم كفكرة وإرادة”، فالراوي يرى أن الطبيعة لا يمكن الوقوف في وجهها، ويؤكد أن الموت والألم حاصلان لا محالة ونحن فقط نغض البصر عنهما.
جدوى الإنسان
تأملات الراوي تعكس حالة الشلل التي يعيشها، ومتعته بالألم الذي يعانيه؛ فمن منطلقه الإنسانية بحاجة إلى الألم كي تصبح حرة، كل محاولاتنا للقضاء عليه تقضي على حريتنا، فاللذة تكمن في الاستسلام للمعاناة بوصفها ضد المتخيل الرومنسي عن الحياة المثالية، وهذا ما يشير إليه رينيه جيرار (1923-2015) في كتابه “الكذبة الرومنسية والحقيقة الروائية” إثر تحليله لدوستويفسكي، فإمعان الراوي في تحقير ذاته ناشئ عن حريته، عن رغبته في رفض الانصياع لمحاولات الجميع لتبرير وجودهم، ما يقوم به هو استسلام كلي لإرادة الطبيعة الحرة، لفيزيائها ولوغاريتماتها.
في القسم الثاني من الرواية “الثلج يذوب” نرى الراوي يختبر الأفكار والنظريات التي توصل إليها، يختبر مفاهيم الحرية الفردية، ويحاول مكاشفة من يعرفهم بلا جدوى حياتهم، أصدقاءه، بائعة الهوى التي يتعرف عليها، خادمة منزله، يحاول أن يدمر تخيلاتهم عن أنفهسم، أن يكشف لهم معاناتهم التي يتجاهلونها، رغبة منه في جعلهم ينعتقون من أوهامهم، فالأخير وحين حديثه مع بائعة الهوى، نراه يحاول تفكيك فكرتها عن نعيمها الشخصي، بل يصارحها بأنها ستصبح كشخص، بلا أيّ فائدة، مجرّد عجوز بجسد بالٍ، الكلّ سيلفظها، ما تظنه نعيمها سينتهي، أم الألم، فهو مفتاحها للانعتاق، كذلك ما حصل مع خادمته، وإهانته لها ثم اعتذاره ثم انهياره أمامها، الأخيرة تدرك مقدار ألمه وترحل، ما يقوم به الراوي أنه يكشف حقيقة الأحلام الفرديّة بوصفها أوهاما، بوصفها متخيّلات فرضها المجتمع لأشكال “النعيم” وسُبله.
الخلاص بالسقوط
عدميّة دوستويفسكي تنشأ من العجز أمام الطبيعة، كما الجدار الذي يتحدث عنه في القسم الأول، هكذا الطبيعة، آلامنا وتخيلاتنا محكومة بقوانين الفيزياء واللوغاريتمات، وبعيداً عن الصيغة الرياضية هي محكومة بأدوار المجتمع، وعلاقات القوة والسلطة التي تحكمه، ما نظنه نعيما هو مجرد وهم صنعه لنا الآخرون، أما اللاجدوى فهي جوهر حيواتنا، نحن لسنا أحرارا، نحن فقط أحرار بالاعتراف بعبوديتنا لأفكار غيرنا وإرادة الطبيعة، إثنان زائد اثنين يساوي أربعة ولنا فقط حرية التصريح بذلك، محاولة مخالفة هذه الحقيقة ستجعل الأمر ينتهي بنا كبائعة الهوى صاحبة النزل، نُفني أجسادنا وعقولنا واقفين في وجه ما هو محتم متجاهلين لحظات الانهيار.
أشهر ترجمات دوستويفسكي هي تلك التي قام بها سامي دروبي وقد ترجم الأخير هذه الرواية عام 1976، في حين أن الترجمة الحالية تمت أول مرّة عام 1956 في سوريا وذلك حسب مقدمة المترجم.
العرب