- أريد أن تدلّني على محطّة القطار.
- محطّة القطار؟
- نعم محطّة القطار.
- أسير باتّجاهها إن كنت ترغبين.
وسرت دون أن أنتظر الجواب. كمنجتي تهدهد الغيوم وحدها، وتغزل السّحاب. وأحرفي تمدّ كلّ ريشها لتستطيع فجأة القفز من حوائط السّراب. وياسمين ترتق الشّوارع بكعبها الدّقيق. تلمّ حولها النّجوم والطّيور والبريق. وتحضن الأيّام. والنّاس يسرعون يسرعون يسرعون.
- ما الاسم؟
- ياسمين.
ولم أفق من صوتها في صمت هذا الشّارع المبتلّ. أصابعي تحوّلت إلى طيور بومزيون، وحلّقت أمامها. لم أكترث في الشّارع المبتلّ مثل مسلخ بالنّاس. يد السّواد في دمي، وغيمة الفسفور والنّحاس. والنّاس يسرعون يسرعون يسرعون. أقدامهم من حجر، والسمّ في العيون. واللّيل يستطيل مثل رحلة عمياء في سحائب المنون. وشارع الحبيب، سماؤه مسقوفة بالجمر، وأرضه بالخمر، وما بينهما مدائح السّقوط والجنون.
لم أكترث بالنّاس. سقطت فجأة هنا، كنقطة في النّون. والنّاس في بلادنا ينسون ما يكون، ما كان أو يكون، يسرعون دون غاية. كشمعة عمياء ينتهون.
لم أستطع ونحن سائران أن أملأ المكان بغير ما أراه من حطام. لم أستطع أن أرتق الأيّام بكلّ هذا الخوف والجنون والظّلام. لم أستطع أن أوقف الزّمان لساعة أو لحظة.
لو كان بالإمكان
أوقفت يا صديقتي الزّمان.
لو كان بالإمكان
جعلت هذا الشّارع المسكون بالنّسيان
قصيدة تحرّر الإنسان.
لو كان بالإمكان
جعلتك حمامة،
وصرت غيمة الزؤان.
وياسمين لا تقول أيّ شيء. تمدّ صدرها للضّوء، منذ البدء. تريد أن تسقّف السّماء بالحقول. تريد أن تغربل الضّياء. حدّثتها ونحن في الطّريق. بالأمس كنت مثلك. والآن صرت كالزّيتونة العجوز. لا زيت، لا أوراق، لا حبّات، لا رموز. لا حبّ، لا صديق، لا شيء غير اللّيل في محرابه العميق، تمتدّ ألف نجمة سوداء وألف مركب غريق. بالأمس كنت أنهض العنقاء من رقادها. والآن لا عنقاء في الرّماد، لا بريق. بالأمس كنت في قوارب الورق أحمّل الزّمان والمكان وأفتح الطّرق. والآن كم يتعبني الرنوّ للشّفق.
وياسمين لا تقول أيّ شيء. تريد أن تطير، أن تطير، أن تطير. تريد أن تسقّف السّماء بشعرها المنثور في قصيدة موزونة. تريد أن تستبدل الغبار والفسفور والإسفلت والغمامة السّوداء بماء روحها. وبالعينين تريد أن تستبدل المصير.
حين مررنا قرب الصّنم الواقف كالفزّاعة أبصرنا حجرا في أفئدة النّاس وسمّا يتقاطر، حجرا أسود يتململ مسموما ويلتمّ على أسدية من قار وصديد، وحجرا آخر أثقل يتمثّل شكل الصّنم الواقف.
-“أفكّر في أمر”. قلت لها: “يجعلنا أكثر إحساسا بالوقت. يجعل هذا الشّجر الواقف كالفزّاعة غيما تتطاير فيه عصافير الموت. أفكّر في برق يفتّت هذا الحجر المرصوف على أفئدة النّاس ويشعل ضوء البيت. لكنّي أعمى مثل جميع النّاس. كأسي ممتلئ بالسمّ، وقلبي ممتلئ باليأس”.
-“أرغب أن تحملني”. قالت: “نحو مكان ينبض بالحبّ. قلبي صدئ جدّا. من لي بصباح كالإسفنج يمسّح منّي القلب؟ من لي برماد أتململ فيه وأخرج أجمل من ذي قبل وأحلى؟ من لي بسماء تملأ روحي أملا؟ من لي ليصبّ الغيب بأوردتي أنهارا أعلى؟”.
.. وسرنا نحو المقهى، مقهى باريس المعروف، طلبنا شايا وقارورة ماء غازيّ. وجلسنا قبالة بعض. كنّا نعرف أنّ السّاعة سوف تمرّ سريعا. فلم نهتمّ بنبض الأرض الواقف تحت القدمين، ولا بعروق الأرض المرميّة تحت سياط الشّمس.
“سأسافر بعد قليل”. قالت: “لكن، جسدي يتجمّد تدريجيّا. يصبح حجرا. وشعري يتمدّد كالأشواك ويثقب عنقي. ووجهي يتمهّد كي ينمو فيه الخوف. اخرجني من هذا القبر. مرّر لي قبضة عشب كي أخلد أو لوحا كي أطفو فوق مياه الغمر”.
-“أجمل ما تفعله امرأة في هذا الشّارع أن تتوقّف كي يسرق منها النّاس النّار. هيّا نذهب يا سيّدتي. فقطارك سوف يمرّ الآن”. قلت لها: “لن نتبادل أرقام الهاتف”. “قد نتقابل بالصّدفة يوما ما. ما أبهى ما تأتيه الصّدفة في بعض الأحيان”.
الآن لا رفيق لي في شارع الحبيب. الطّير صار قطعة من الجليد، لا يهزّها الضّجيج. والعشّ صار بيت ميّتين. والنّاس كلّ النّاس يسرعون يسرعون يسرعون…
مجلة قلم رصاص الثقافية