الرئيسية » رصاص ناعم » قصة قصيرة | «ذات يوم أخير» لـ فكرية شحرة

قصة قصيرة | «ذات يوم أخير» لـ فكرية شحرة

فكرية شحرة | منذ زمن طويل لم يخرج كمال إلى العمل سيراً على الأقدام. ورغم شعوره بالحنق، كون السيارة معطلة وسيذهب للعمل ماشياً أو بالأجرة؛ إلّا أنه شعر بنوع من المتعة في هذا الطقس الجميل، الذي لم يعهده بهذه الصورة من قبل.

لقد ترك نسيم الصباح يعبث بشعره المصفف بعناية، كما أنه لم يبال بالتراب وهو يتقافز على حذائه ويتمسح بساقيه كقطة متسخة تركت أثرها واضحاً على بنطاله الأنيق.

 كما أن أشعة الشمس في الصباح كانت حانية غير متسلطة، تداعب وجهه كأصابع طفله الصغير وقبلاته المحبة. لذا أكمل طريقه يتأمل ما حرمته السيارة، والانشغال بأوراق الشركة، من مشاهد ممتعة وساحرة.

لمح من بعيد ذلك الرجل الأشعث المبعثر المنظر؛ كان يحمل فأساً تلمع تحت أشعة الشمس. كان يبدو كأحد أولئك العمال الذين يكدون بأعمال شاقة منهكة طوال اليوم مقابل ما يسد رمقهم فقط.

 يخالجه الأسف لهذه الشريحة المنسحقة والمطحونة، وما يكابدون في معيشتهم من ضنك وجهد مقابل معيشة تزيدهم شقاءً ونصباً.

 لكنه أقنع نفسه أنهم مخلوقات فاشلة لا تستحق الشفقة، أغلبهم جهلة لم يكملوا تعليمهم عنوةً أو لم يكونوا راغبين في الالتحاق بالدراسة والتعليم، ليس بسبب الظروف الصعبة لذويهم؛ وإنما عجزاً وفشلاً أقعد آمالهم.

فهو مثلاً لم يولد وفي فمه أي نوع من الملاعق الذهبية أو النحاسية؛ ولكنه صنع بكده واجتهاده ملعقته الخاصة وبها يتناول رزقه الوفير وأيضاً مكانته المرموقة. إنه لم يسمح لأي

كان، أو أي ظرف ما أن يقف حجر عثرةٍ أمام طموحه أو يسبب له الفشل أو الخسارة، وخاطب نفسه أن مثل هؤلاء يتركون شماعة ظروف البلاد وسوء المعيشة نصب أعينهم، ويتحججون على فشلهم بالأوضاع.

اتضح مظهر الرجل صاحب الفأس أكثر مع اقترابه الوشيك. لاحظ كمال كم يبدو قذر المظهر؛ كأنه لم يعرف الاغتسال منذ شهور، وكم أن ثيابه ممزقة وقديمة يرتديها قطعة فوق أخرى كي يتقي البرد أو ظهور أجزاء من جسده للعيان من تلك الشقوق في ثيابه، إنما كانت خطواته أكثر ثباتاً وقوةً الآن كأنما تقوده عزيمة أقوى من وضعه السيئ. ملامحة صارمة ومتبلّدة كأنما لا يعنيه مظهره القذر أو نظرة الآخرين له.

شعر كمال بالامتنان لنفسه، كونه استطاع أن يكون مميزاً في منظره ومضمونه، وأنه لن يقبل أن يكون من هؤلاء البشر يوماً. ما إن واجه ذلك الرجل حتى شعر بالقشعريرة تشمل حواسه وجوارحه. كانت نظرة الرجل ميتةً لا تحمل أي شعور.

 شعر بالراحة أنه سيحاذيه للحظةٍ ويختفي من أمامه؛ رغم امتعاضه من فكرة محاذاته؛ فالشارع واسع ولا يدري لما تعمد ذلك الرجل أن يسير بقربه تماماً.

 وللحظةٍ عقدت الدهشة والصدمة لسانه واتسعت عيناه برعب لآخر مرة؛ حين ارتفع الفأس في قبضة الرجل واستقر في عنقه.

                                     ******

ينادونه بالمجنون. لكنه يعرف في قرارة نفسه أنه فقط مصدومٌ ويائسٌ، وحزينٌ جداً، وأحياناً يكون ناقماً وغاضباً مثل هذا اليوم.

فمنذ الصباح وأمور كثيرة وذكريات تترى على مخيلته في تدافع مؤلم أصابه بالحنق والنقمة وكثير من الإعياء أجهد تفكيره وشتت إدراكه؛ لقد تذكر فجأة أنه كان شاباً ناجحاً لديه كل ما يتمنى أي رجل: لديه عملٌ محترمٌ ودخلٌ مرتفع، لديه زوجة وأبناء رائعون.

 لكنه خسر كل ذلك في لحظة واحدة، في صفقة نصب ظالمة أغرقته في الديون وحولته إلى متسول حق على أبواب المحاكم، لينتهي صفر اليدين قد حرم زوجته وطفليه، وأخيراً عقله.

 لقد كان يشعر أن كل من حوله اشترك في مؤامرة لتدمير نجاحه، وليس منافسه اللئيم في صفقات المال والأعمال فقط.

وبدأ يتوعد الكل بالقتل دون رحمة؛ بل إنه هاجم أكثر من شخصاً بفأسه الشهير والذي تبقى له من كل أمواله المصادرة، حتى انتهى به المطاف إلى سجن قذر يسمي ظلماً مصحة عقلية.

 قضى هناك سنوات طويلة تفاقم فيها غضبه وحنقه على عدوه الذي تآمر عليه وعلى حياته كلها. ولكنه خرج في النهاية بعد أن أدرك أن له عدواً وحيداً سيعرفه حال رؤيته، وهو الذي سيحطم عنقه بفأسه.

وفي ذلك الصباح، أيقظته الشمس تلسع وجهه بأشعتها المشمئزة من رقدته في حوش مهجور يرتاده أمثاله من المتسكعين الذين لا مأوى لهم. نهض مسرعاً من رقدته محاولاً ألّا يصدر صريراً من عظامه المتآكلة، ودون أن يكلف نفسه عناء نفض ثيابه القذرة من فراشه الترابي المطعم بالحصى.

تناول فأسه مدركاً أنه سيقابل غريمه اليوم، وأنه سيقتص لأوجاعه وأوجاع كل المساكين أمثاله.

 كان يتمتم لنفسه أنه سيجده، وأنه بمجرد نظرة واحدة سيعرفه؛ لذا حين لمح من بعيد ذلك الرجل المتأنّق، خفق قلبه بقوةٍ دون أن تتحرك ملامح وجهه الباردة.

في قرارة نفسه أدرك أنه يقوم بالأمر الصائب؛ فهو ينقذ الكثير بقتل هذا الشخص المتباهي والمختال في مشيته. ومع اقترابه من ذلك الشخص تيقن أن داخل بزّته الأنيقة وحشاً طليقاً يجب أن يموت على يديه. لقد آلمته نظرة الرجل المشمئزة وهو يحاذيه، فرفع الفأس بكلتا يديه وهوى بها نحو عنق الرجل.

قاصة وروائية من اليمن | خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

رولا عبد الحميد تقول: إنها تجلس وحيدة في حضرة المحبوب

يقوم نص الرواية على حكاية حبَ بين حبيبين لا يلتقيان أبداَ، يدقَ قلبها، وتشعر بالاضطراب …