هل الهوس بشيء ما فجأةً هو دعوةٌ إلى التشبُّع منه قبل فقدانه؟
أمضيتُ عطلةَ الربيعِ تلك بين ألبوماتِ صور الطفولة، أقلّبها لساعاتٍ وساعاتٍ، لا أذكر يوماً مرّ من أيام العطلةِ دون أن تجدني أمي بعد عودتها من العمل غارقةً بين أمواج مربَّعةٍ من الصور.
الطفولة في “الشدادي” تعني حضانة “أحمد عبّود النزّال”، والأخيرة بمجرد حضور اسمها سيحضر بالضرورةِ اسمُ مديرتها:
بشرة سمراء، شعر قصير، ابتسامة ساحرة، نظرة حنونة،….
إنها “أم نضال”.
فرط الحنينِ يفرط دمعاتِ العين، شعور خبرتُ سطوتَه وأنا أتذكر أمَّ نضال وأقلّبُ بين الصور، أما الذكريات التي لم توثّقها الصور الفوتوغرافيّة فقد وثَّقَتها صور ذاكرتي التي بها أحيا بعد أن فقدتُ سابقتَها:
– طوابير الحليب كلَّ سبت تحت إشراف أمّ نضال.
محالٌ أن يبدأ الأسبوع “الحضانيّ” من دون أن يشربَ كلُّ طفلٍ كأس حليب، كؤوس الستانلس التي ما زلتُ أعشقها حتى الآن.
كنتُ أنتظر بلهفةٍ قدومَ يوم السبت، منظر اصطفافنا أمام المطبخِ كان يبهج قلبي فتصدح دقّاته لعظَمة هذا الطقس، وعندما يحين دوري وأستلم هذه الكأس المقدَّسة أشربُ الحليب بسرعةٍ كأنّ البقرة التي أنتجته تلاحقني تريد أن ترفسني، كل ذاك الاستعجال حتى أرى وجهي في قعر الكأس، وجه مفلطَح وعينان جاحظتان وأسنان كبيرة، لا أدري لمَ كنتُ أفرح برؤية تلك النسخة المشوَّهة من وجهي! يخطر على بالي الآن وأنا أكتب أنني أستطيع الكتابةَ ومتابعةَ حياتي رغم كل التشويه الذي طالَها لأنني عرفتُ كيف أصادقُه منذ صغري، محاولةُ تفسير مشوَّهة منطقياً، أعلم ذلك لكنني سعيدة بها.
–عينان كبيرتان تحت نظارة، أين رأيتُ هاتين العينين، أين؟ بقيتُ سنوات الحضانة أسأل نفسي هذا السؤال.
محال أن تنتهي السنة دون أن يزورنا بابا نويل، كانت معلماتُ الحضانةِ ينشغلن بترتيب مشهد وقوفِنا لاستقباله، يدخل بضحكتِه المجلجلة ورنين جرسه فتختفي الضوضاء وتتخدرُ حواسنا في انتظار أن يقطع بابا نويل الممرَّ ويطلّ علينا.
أبتسمُ وأنا أطالع صورةً لأختي وهي جالسة في حضنِه محاوِلةً أن تحبسَ دموع الخوف منه بابتسامةٍ عكَسَت زاويتَي شفتيها نحو الأسفل، كل ذلك لأنها لم تكن تعلم أنّ بابا نويل هو أم نضال، أنا أيضاً لم أعلم هويّته إلّا بعد أن كبرت -ربما في المرحلة الابتدائية- أخبرتني أمي أنّ أم نضال كانت تصرُّ على أن تتنكرَ هي بنفسها بزيّ بابا نويل، ولا ترضى مطلقاً أن تمرّ هذه المناسبة مرور الكرامِ على أطفالها.
–“ما تنسوش…زي ما اتفقنا، عطوا الهدية لماما وبوسوها ع ايدها وخدها، واحكولها: كل عام وانتي بخير يا ماما”
كنتُ أحرص على تكرار وصيّة أم نضال طوال طريق العودة إلى البيتِ، يجب أن أكون الابنة المثالية في عيد الأم، وأنفّذ كلمات أم نضال بحذافيرها.
-الصورة الوحيدة في حياتي التي كانت تُضحكني وتُبكيني في الوقت ذاته، والآن أعيد تشكيلها بالكلماتِ وأنا أضحك وأبكي في الوقت ذاته.
جدار في الحضانة افترشت أرضَه من من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار “نونيّات” من كل الألوان: الأحمر والأزرق والأصفر والأخضر، ونحن نبتسم لكاميرا أم نضال بقمة البلاهة والبراءةِ، لمَ لا يولد الإنسان بذاكرة حادة منذ صغره؟ احترق دماغي عبثاً وأنا أحاول تذكر كواليس هذه الصورة، يا إلهي لا أستطيع حتى تخيل كيف التُقطت!
بالمناسبة، ما الذي كنا نفعله نحن الأطفال ريثما ننتهي؟ هل كنا نتبادل الأحاديث عن أهمية هذه الفقرة في حياة الطفل مثلاً؟
آخر مرةٍ رأيتُ فيها الصورة كانت في عطلة الربيع تلك عام 2012، حين عدتُ إلى الشدادي لأمضي العطلةَ مع عائلتي فقد كنتُ أول فردٍ يستقر في اللاذقية بحكم دراستي الجامعية، أتذكر يومها أنني قطعتُ وعداً على نفسي بمجيء يومٍ أذل فيه أصدقائي من شركائي “النونيين” بهذه الصورة، صحيح أن التواصل انقطع مع أغلبهم بعد الشهادة الثانوية وعودة كل منهم إلى محافظته التي ينتمي إليها ليتابع دراسته الجامعية، صحيح أنّ هذا ما حدث لكن كنتُ أعلم أننا سنعود للتواصل يوماً ما، وبالفعل نحن اليوم أصدقاء مرة أخرى لكنّ الصورة لم تعد موجودة، ولم تظهر نسخة أخرى منها فمن المؤكد أن أصدقائي مثلي؛ ليسوا ملائكة وكانوا سيفعلون ما كنت أنوي على فعله.
قُتلت الصورة في شباط عام 2013 شأنها شأن كلّ ما هو جميل في الشدادي بعد تهجير سكانها، وخطفهم، واحتلال بيوتهم، وسرقة أثاثها، و……
*******
-“ااا، أنا فلسطينية من رام الله
أتذكر قولها جيداً، كم تخطر أم نضال على بالي في الفترة الأخيرة! سأكتب عنها”.
-“ايييه على أيامها، الحضانة كانت تعني أم نضال بالنسبة إليّ وإلى كل أم، شخصية مميزة من النوع الذي يُحفر في الذاكرة والقلب، نعم…اكتبي عن أمكِ الثانية”.
-” الحمدلله أنها ليست من غزة، ولكن أين هي الآن؟ هل عادت إلى رام الله أم تُراها لا تزال في سوريا؟”.
-“زوجها سوري، أعتقد أنها تعيش في دمشق”.
-“كيف سأصل إليها؟ وجدتُ حسابها على فيسبوك لكنه غير نشط منذ سنوات، سأحاول الوصول إلى حساب نضال أو أحد إخوته”.
-“من؟ نضال أو أحد إخوته!
لا وجود لإخوة نضال ولا لنضال حتى، ألا تعلمين أنّ أم نضال هو لقبها وأنه ليس لديها أطفال؟!”.
مجلة قلم رصاص الثقافية