الرئيسية » رصاص ناعم » كنا صغاراً

كنا صغاراً

سُكينة هكّو | المغرب

كنا صغاراً، ننتظر رنين جرس انتهاء الحصة الأخيرة في أيام الشتاء الباردة، لنعود مسرعين إلى منازلنا، وقد انكمشنا في معاطفنا الشتوية الثقيلة، التي كانت أمهاتنا يحرصن على أن نرتديها ولا يتركننا حتى يأخذن علينا عهدا، أننا لن نخلعها مهما حصل، ولا تتوانى شفاهنا الرقيقة وأيدينا الصغيرة على التحالف معا لأداء القسم، رغم علمنا يقينا أن هذه المعاطف وإن كانت تحمينا فإنها تعيقنا عن الحركة، ولكنه الولاء، كان يمنعنا من النكث بالعهد أو ربما إيماننا الصادق أن قلب الأم قادر على اكتشاف أية محاولة للتمرد.

كنا صغارا، تحمينا مظلاتنا الصغيرة مثلنا وأحلامنا الكبيرة من ظلمة المساء والسماء الملبدة بالغيوم وزخات المطر، التي كنا نعشق وقع قطراتها على ظهر المظلة الملونة بألوان الطيف، تلك المظلة التي كنا ننتظر فصل الشتاء فقط لنحملها، ولنتخيل أنها يوما ما ستحملنا لخفتنا وتطير بنا نحو الأفق البعيد.

كنا نمشي بسرعة حينا ونركض أحيانا، غير آبهين بالبرك المائية الصغيرة التي تشكلت، والتي كانت تستقبل أقدامنا الصغيرة لتطرحها بعد ذلك بأحذية موحلة مهما حاولنا تنظيفها فإنها ستترك أثارها لاحقا على مداخل البيوت. هي نفسها الآثار التي كنا ننتظر جفافها لنقارن بين أحجامها ونحتفي بصاحب أكبر أثر، ذلك أننا كنا نتوق لنكبر.

كنا صغارا، ما أن ندخل البيت حتى يعانقنا الدفء، وتداعب أنوفنا الحمراء المتجمدة، رائحة القهوة
بالحليب، نتحلق حول المائدة، بعد أن نستبدل ملابسنا المبللة بأخرى دافئة، ذات رائحة مميزة، كانت تجبرنا أن نغمر وجوهنا فيها ونستنشقها بقوة كأننا نخاف نفادها، قبل أن نرتديها بسرعة، لنلتحق بأماكننا ونحضن بأكفنا الصغيرة أكواب القهوة، مستمتعين بالحرارة المنبعثة منها وبرائحتها التي لا تضاهيها أية رائحة أخرى. وحدها قهوة أمي كانت ومازالت تطربني وما كنت لأستسيغها في طفولتي سوى من يدها. حتى بعد أن كبرت وغادرتني الطفولة فغادرت مدينتي، واحتسيت القهوة في مدن مختلفة وفي مقاه مختلفة لم أجد ولو جرعة واحدة تشبهها. ولو زرت كل مقاهي الأرض أعرف مسبقا أنه لا مثيل لقهوة أمي.

كنا صغارا، ما أن ننهي واجباتنا المنزلية حتى يلجأ كل واحد منا الى ركنه الخاص أمام التلفاز. نخفي أجسادنا الصغيرة المرتجفة، تحت الاغطية الثقيلة. وننتظر ما سيجود به هذا اليوم من مكافآت ليلية، كانت تتمثل غالبا في قطع حلوى أو حفنة من الفواكه الجافة المختلطة، نلتهمها ونحن نشاهد مسلسلا مصريا من تلك التي كانت تعرضها القنوات المعدودة على الأصابع وقتها. وكان يراودنا النعاس في منتصف الحلقة لكننا كنا نقاومه بشراسة وعبثا نحاول إبقاء أعيننا مفتوحة، لكنه كان يغلبنا في كل مرة ويأخذنا مطمئنين الى عالم الأحلام فلا أفكار تدور في رؤوسنا الصغيرة لتعيقه ولا خوف من غد ليبعده. وبلمسة أقرب الى السحر، كنا نستيقظ صباحا لنجد أنفسنا في أسرتنا الوثيرة رغم اننا لم نزرها في ليلنا.

كنا صغارا، وكانت أيامنا متشابهة ولكنها كانت جميلة. كنا صغارا، وكانت أحلامنا كبيرة ولكنها لم تكن مستحيلة. كنا صغارا، ولم نكن نعرف للرفاهية طعما ولكننا كنا راضين وفرحين. كنا صغارا، وكانت سعادتنا تتلخص في مشاهدة برامج الأطفال، في اللعب مع أقراننا وفي رائحة الكعك التي كانت تفوح من الفرن في أيام نهاية الأسبوع. كنا صغارا وكانت صرخاتنا الفرحة بملابس العيد الجديدة وبالنزهة الموعودة تملأ أرجاء المكان ويتردد صداها حتى لكأني أسمعها الآن على بعد عمر كامل. ثم لم نعد صغارا، كبرنا واكتشفنا أن الدفء لم يكن في المعاطف ولا في الأغطية الثقيلة بل في الأيدي التي كانت تلبسنا وتغطينا.

كبرنا واكتشفنا أن رائحة الملابس التي كنا نخشى فقدانها، لم تكن سوى رائحة أمهاتنا، رائحة الأمان التي غابت عندما صرنا نغسل ثيابنا بأنفسنا. كبرنا واكتشفنا أن طعم القهوة كان ومازال مختلفا، لأن السر لم يكن في حبات القهوة، بل في حبات الحب والاهتمام التي كانت تطحن معها وفهمت سر أبيات محمود درويش العالقة أبدا في أذهاننا:

أحن الى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي.

أنا أيضا كلما غيبني البعد وأبعدتني المسافات، تترجم أحاسيسي وتتلخص في الحنين لشيء واحد، قد يكون وحده كل شيء وقد يحمل في طياته ألف معنى، أنا أيضا أحن الى قهوة أمي.

كبرنا واكتشفنا أن الأسرة ما عادت تستحمل ثقل رؤوسنا، رؤوسنا الملآى بهموم الحياة.
لم نعد صغارا، ولكننا مازلنا نحتفظ بحمولة غنية من طفولتنا، نخبئها في ركن قصي من الذاكرة، بعيدا عن عيون المتطفلين، ونطلق لها العنان لتزور وحشة ليالينا كلما أثقلت علينا الحياة حملها وكلما تعثرت أقدامنا في وحلها.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

النسّاجة

عندما زارنا أول مرة كنت قد كبرت شبراً إضافياً، مسّد على شعري، داعب أرنبة أنفي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *