ما ينفكّ الشاعر المغربي محمد رشوقي، يسكُب من عصارة نرجسيته، في شريان مشروع إبداعي، حذر الخطى، يمشي الهوينى، داخل حدود تجربة الصدق والإخلاص لرصانة الحرف وكريستاليته في تأثيث فضاءات المُكابدة المنبثقة مما هو محلي، باتجاه الكونية الحاضنة للهوية الإنسانية انتهاء، وفي غمرة مقاربة الممتد من مركزية ذاتية، تجسّده بقية العناصر الحياتية والطبيعية الأخرى.
فمن ناحية تراتبية، تحل هذه المجموعة قيد الدرس، رابعا، في مسار الشاعر، بعد الباكورة” معراج السفر” فالعمل الثاني” مرثية الغروب” ثم منجز” معطف عشق لشموخ الوردة”، البيّنة فيه وبجلاء نزعة التصوير الفني”، قبل أن يُسجل للذات الإبداعية تراجع، إلى مستوى التقشف اللغوي، المعهود لدى شاعرنا، في عمله الجديد هذا والذي هو بين أيدينا: زهرة السياج
إن حضور الحمولة النفسية المرتكزة على الدال البصري، تكون أبلغ وتبلغ الذروة مع إيقاعات الاقتصاد في اللغة، عبر عملية أو ممارسة طقوس، خلع أسئلة القلق والشك المُحتقنة به الذات، على الموضوع وفي مساماته، في أفق جدلية جوانية دامغة بهواجس التوحد مع المعطيات الخارجية، إثر نوبة تقمص لحالاتها الوجودية بالكامل، ففي ذلك تحقق البعد الرسائلي المبطن بقوالب بساطة وشفافية التجربة، مع الحفاظ على المسافة المتوجبة، مع إملاءات قوة المتون وعمقها.
حسب المستفاد من هذه العتبة، من زاوية حضورها التركيبي كما الدلالي، يمكننا استخلاص معنييْن اثنين: الحرية والحماية.
نقتطف له الآتي:
“بشيء من صمت المتهجدين
خلف أرصفة مترعة بإيقاع الألم
أنيخ راحلتي البلقاء
قرب صوى المكان
وأهمس لغيمة متعجلة
عبرت سماء الغثيان
في الزمن العاري…
أيها المستجير برمضاء قهري
تراني الآن أحمل أثقالا
من حجر الصبر
ينوء بها ظهري
فك إذن أحلامك من كبلي
فأنا إن رأيت ما لا ترى
فقد رأيت كلابا جذماء
وذئابا جرباء
تعوي على مشارف المدينة القتيلة
وحراس الغابة في سباتهم يغطون
أنا هنا أروض ديجور السراب
شارد كباشق الفجاج البعيدة
يرتل نشيد الرحيل
فوق ناصية الغياب
لغيمة تائهة..
بين أسوار الأمل
والوجع النازف
تحاصرني أشواق ترحل بي
إلى مكان مهجور
حيث تختلج الحروف بصدري
وتشتعل بقايا الحنين
في ربوع الوطن الساجي
لا مطارف، لا شراشف ولا أشذاء لي” (1).
إذ يُعتبر التهجّد الصوت العقَدي المُشاكس، لواقع الألم ولحظات التخشّب، ضمن خارطة رمادية تتداخل وتختلط عندها ملامح كل العناصر. بحيث تنرسم ملامح ذلكم الجرد، على ارتجاليته، للحلول أو البدائل الممكنة، في سياق ضمني مُحيل على الرمزية كميكانيزم مُهيمن على النفس الشعري في المنجز ككل .
المنافي المهجورة، كطرف ثان في هذه المعادلة الإنسانية الصعبة الضّاجة بفوبيا تقييد الأحلام، وعلى النحو الذي يجعلنا ندحض ودون تردد، معنى الحماية الذي قد يستشفّ من خطاب مواز مراوغ، تترجمه تجربة التوحّد مع المكون الطبيعي، الزهرة هنا.
هو سؤال الحرية، إذن تصطبغ به هذه الشعرية، في محطات متنوّعة، مثلما نستطيع اقتناص تمظهرات لها، إمّا تلميحا أو تصريحا، هنا وهناك، وبكل متواتر وتصاعدي.
يقول أيضا:
“لا شيء هنا
لا شيء في اللاشيء
لا شيء في جبة الحلاج
وقاموس الشعراء
لرأب الشرخ
في قلب السماء
لا شيء في دياجير
الأبدية
الخرساء
غير انتظار مثقل
بهدير السلالات
في زمن الوباء
وهذه هداهد من هباء
تخلخل ما تصادى
في كتب الخبر اليقين
خبر جائع
من سبإ الحضارة العرجاء
يثمله صفير الريح
وحمارة القيظ
في شوارع وسنى
مشبعا بسم الأفاعي
وفيضان اللامعنى
خبر مكدود مهلهل
ينام تحت أضلاع الهاوية
وتعرجنه شوادن القيامة الآتية
فتبا وألف تب
لأحلام المدن الفاجرة
لحروب الماء
وسهو الذاكرة
العالم محض سراب
ولعبة شطرنج
في حرب خاسرة..(2).
وإنما تعمّدنا الإسهاب في الاقتباس من المجموعة، في المقتطف الواحد، تأكيدا على روح المطولات في شعرية صاحبنا، من جهة، وللوقوف عند الصور التي تنتجها نزعة الانقماع بأسئلة وهواجس الحرية، من جهة أخرى.
إنها عدمية تتناسل لها أسئلة الحرية في كون دموي مضطرب، وتتولّد لها معاني ظعنيات النرجسي المنقاد لأصداء المفقود في أدغال إنسانية الكائن المهدورة.
بديهي أن تكون زهرة هذا الديوان، هي غزة بكل ما يعتريها من جنائزية شاهدة على زيف التقدم ومزاعم الجنون الحضاري، بيد أنه جاء متقنّعا بالمعنى المشرع على موسوعية أسئلة التّحرر الحقيقي، طافحة بمرارة هواجسه مرحلة إعادة تشكل الوعي العربي والإنساني عموما.
إحالة:
(1)مقتطف من نص” تحت سقوف المجاز”،صفحات10/11/12.
(2)مقتطف من نص” الحرب الخاسرة”، صفحات68/69/70.
مجلة قلم رصاص الثقافية