الرئيسية » نصـوص » لدينا حلم
لوحة للفنان والشاعر نصر سامي

لدينا حلم

أمري كان لي فيما مضى، والآن، لا أدري، أبي قلق من الطّغيان؟ أم هل أنّ بي ما يعجز الدّنيا وذاكرة الزّمان بحاله؟ أدري بأنّي لا أرى. لكنّ ماء الرّفض ينبع من خلال أصابعي، ودم السّؤال ينزّ من قلبي. وهذا اللّيل ملتمّ كقبر من سحابات ولا عنقاء في الأعطاف. أمري كان لي. والآن لا أدري، أهذا الموت خاتمة المطاف؟

أهذي الحرب روح خطافة عمياء طافت حول قلب الأرض كي تعطي سلام الخطف في تطوافه؟ أدري بأنّي لا أرى أملا هنا في هذه العتمات غير الرّيح في ترحاله. الموت في الأضواء في السّاحات في الدّرجات في حوض الشّتول وفي المدى، الموت في الآهات في الكلمات في نفس الرّضيع وفي بكاء الأمّهات وفي غروب الشّمس أو إشراقها، أدري بأنّي لا أرى أملا وهذا الصّمت حمّى في الضّلوع. وآه يا بلدي.

أمري كان لي فيما مضى.. وها رمته الرّيح ها قد ضاع للأبد. فيما مضى كانت لشمعتنا يدان وأذرع حبلى بأثمار المنى والنّخل كان له رؤى وكان ديوان الصّبا في كل رفّة طائر، فيما مضى الأرض كانت للجميع لنا، لهم ولغيرنا من كائنات الأرض. أسطورتي تأتي لتلعب في حقول الآخرين مع المدى وفجرهم يأتي بصندله الصّغير وينحني قرب البحيرة عاريا والأغنيات تسير في نهري ونهر الآخرين ولا ترى. فيما مضى النّاي كان نشيدنا المكتوب بالطّين الشّريف وبالحديث وبالبروق وبالنّدى. والآن لا أدري أبي شوق إلى النّسيان يحميني من الذكرى؟ وهل في هذه الصّحراء غير الحرب والطّغيان. لا أفهم الصّحراء في هذا الخلاء السّرمدي. وأفهم الصّخر الحنون إذا تكسّر تحت أزمنة البلى، وتهزّ روحي روعة التكوين إذ تنداح في صمت على شفتي فيوض الطلّ والذّكرى، وأبكي كي أرى عمري فراشة صدفة تأتي لتلحس ظلّها في ضوء أغنيتي التّي أحيا بها. وأحبّ أن أعطي لحيّات الرّمال أصابعي وجوارحي ليدور سمّ الأرض في جسدي. زمن القداسات القديم يمرّ في الصّحراء يعرفه الأهالي من برود في الضّلوع إذا أتاهم هاهنا أو من حنين للصّبى. جنحاه ما هدآ. ولكنّ الأهالي لم يكونوا قادرين على متابعة الرّحيل. يكفي ليرتحلوا وهم تحت اللّحاف تلفازهم.

زمن القداسات القديم يمرّ كالأضغاث بي لكنّني في ظلمة الأكوان مقطوع اليد. هذي معلّقتي. أموت هنا وقافيتي معي. هذي معلّقتي. أموت هنا وذاكرتي معي. هذي معلّقتي. أموت هنا وفي دمي لغتي. هذه معلّقتي. وكلّ أسئلتي معي. هذي معلّقتي. وما يمتدّ في النّسيان من لغتي معي. هذي معلّقتي. نعم، وأمري ليس لي. ذكراي تحضر في المكان وفي الزّمان وفي الدّجى. وأنا الخلاء يلمّ في كفيّ
أسراب النّجوم وقد نمت في ضفّتيه رؤى الجحيم وقد تداركه الصّبى. أنا فكرة في الأرض، أرواحي سراب لا وجود له. وأحزاني سحابات.
وحنجرتي خلاء لا وجود له. يد التّاريخ هذى وامتهان الوقت لي. غمغمت في سرّي. وأدركني الظلام. فنمت في طيف الجدود هنا..لوحدي. لا شيء قبلي في المكان وفي الزّمان وكلّ الأرض تلفظني،
أيكون برق الأرض لي وطنا؟ أيكون لي وطن كأعدائي هنا لأموت فيه وأنحني وأقبّل الحجر القديم وأحلب البقرات في غاباتها؟ أأكون أفراسا لأعرج دون عود؟ كان لي ظلّ على الزّيتون، إيقاع وراء الماء، إنشاد إذا عاد الرّعاة من الجبال، وسقسقة إذا طار الفراش وراء قدّاس الغيوم.

كان لي فيما مضى فضل على أيّامنا. والآن لا زيتون في الأرض القديمة. لا مياه على سواقي الانتظار ولا رياح لفتح باب المنتهى. والأيّل الجبليّ ما عادت خطاه تدبّ خلف منازل الجيران، والعشّاق ما عادوا مرايات لتكسرهم فصول العام، والأغراب لم يرثوا سوى زبد الدّموع، ولا فراش يمرّ عبر الرّيح في هذا المدى. في الحلم متّسع، ويكفينا تراب الذكريات لكي نصلّي. كلّ ما نحتاجه أفق صغير للغزالة كي تمرّ إلى الحشيش الأخضر الجبليّ، ونهر للصّغار لكي يروا أحلامهم في وجه نرسيس الصّغير، ووردة للمرج تعلن أنّ فصلا سوف يمضي هكذا، وأنّ آخر سوف يأتي بالزّهور وبالمنى. في الحلم متّسع، ويكفينا الهواء لكي نصلّي، كلّ ما نحتاج أرض للحياة هنا مع أطيارنا وصغارنا وترابنا وهوائنا، أرض بحجم قصيدة، حتّى بحجم قصيدة، أرض بحجم يد.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن نصر سامي

نصر سامي
نصر سامي: روائي وشاعر ورسام تشكيلي وباحث من تونس، حاصل على الجوائز التالية: جائزة الشارقة للرواية 2015، برواية حكايات جابر الراعي، دار ورق للنشر، الإمارات، 2014، وجائزة كتارا للرواية 2017، برواية الطائر البشري، كتاب كتارا، 2018. أصدر: 9 كتب شعرية، و4 روايات، ومسرحية واحدة، و3 كتب في النقد، وقصيدتين في كتابين بأكثر من لغة. مؤسس ورئيس تحرير مجلة الشاعر الفصلية المحكّمة. صدرت عنه 3 كتب نقدية وبحوث متعدّدة. يهتمّ في بحوثه وسرده بالمرويات الشفوية، مستثمرا ممكناتها وطاقاتها في عوالمه السردية، مدرّب دولي معتمد في السّرديات. مشرف على مبادرة "ورشة نصر سامي للقصة القصيرة"، وعلى سلسلة منشوراتها (أصدرت لحد الآن 27 عنوانا).

شاهد أيضاً

زخة هايكو

حسني التهامي | مصر قطارُ السابعة على ذاتِ الرصيف صِبْيةٌ يُكملون أحلامَهمْ … في أوجّ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *