الرئيسية » رصاص ناعم » في حضرة الغياب

في حضرة الغياب

وحدهم أولئك الذين يتقنون فن الغياب قد فهموا لعبة الحياة، فلا تنفك هي تبحث عنهم وتطلب رضاهم. أما أولئك الحاضرون دائما وأبدا، فتدير لهم ظهرها، على يقين هي أنهم باقون ما بقي الدهر. وحتى عندما يصبح الغياب طبعهم، فيتقنونه ويتفننون فيه، لا تبحث عنهم، ذلك أنها أُتخمت بهم ذات حضور.

كنت أنت من أولئك الذين فهموا جيدا قوانين اللعبة، بل من أولئك الذين أضافوا لها قوانين جديدة، وأبدعوا في أسباب الغياب وأساليبه. وهذه كانت مأساتي معك، أنا الحاضرة دائما حولك وأنت الغائب بلا سبب، وبألف سبب. ولأنك لم تحاول يوما أن توجد لي مبررا مقنعا لهذا الغياب، ولأني كنت من أولئك الذين ما أن يقعوا في الحب حتى يُختصر الكون بالنسبة لهم فيمن يحبون، كانت الحياة تتوقف ما أن تغيب أنت، حتى نبض القلب يتغير صوته ولا تعلو دقاته كما كانت في حضورك، وكأنه صار يكتفي بالقليل الكافي لأعيش. وكنت أنكمش على نفسي، أسترجع معها أحداث الأيام الماضية بكل تفاصيلها، أحاسبها على أخطاء لم ترتكبها والتي لربما دفعت بك للغياب، أخلق لك أعذارا وأبحث لك عن ذرائع أعرف يقينا أنه لا وجود لها. ولكنه الحب، كان يجبرني على إيجاد دوافع أنت نفسك ما كنت لتجدها. وكثيرا ما كنت أتساءل، أكنت تختبر بهذا الغياب صدق حبي لك؟ أكنت تراهن على صبري وعلى رغبتي المستميتة في البقاء إلى جانبك؟ وهل كنت بحاجة لألاعيب كهذه، ونظرة واحدة في عيني التي لم تكن ترى سواك، كانت كافية لتكشف لك أني اكتفيت بك عن العالم، وأني منذ التقيتك، ما عدت أطلب شيئا آخر من الحياة، فما الذي قد ينقصني وأنت معي، يدك في يدي وقلبي بيدك.

وإيمانا مني بأن قصتنا تستحق أن تعيش، أن تنجح وأن تُحكى، وألا تصير ماضيا يُبكى عليه، كثيرا ما حاولت أن أُغيّر فيك هذه العادة التي كانت تتهدّد حبنا بالفناء، وأن أُثنيك عن المُضي قُدما في طريق لن نجني منه سوى الخراب، وستكون في نهايته نهايتنا. فبعد كل رحلة غياب وعودة لك، وكل وقفة على حافة اليأس لي، على حافة الضياع، على حافة الخوف وانعدام الأمان، كنت أتوسل إليك أن تضع حدا لهذا العذاب وأن ترأف بحالي، أنا التي صار البحث عنك وانتظار ظهورك المفاجئ كغيابك تماما، نصيبي من الحياة.

جلّ ما كنت أخشاه أن أعتاد غيابك، فأتوقف عن البحث، عن الانتظار وتتجمد الدموع في محجري، بعد أن كانت تنهمر بسخاء بمجرد أن ألمح طرف غياب. ولكنك لم تكثرت يوما لتوسلاتي، ولم تهتم بالألم الذي كان يعتصر قلبي، أنا التي أخبرتك في لقائنا الأول أن قلبي من زجاج، فأقسمت لي أن يديك من حرير، منذ متى صار الحرير يُنسج من شوك ومسامير؟

لقد كانت نرجسيتك أقسى من أن يكسرها حزني، وكنت أنا أضعف من أن أنتصر لذلك الحزن. ولكن الأرض في دورانها تقلب الموازين، ترجّح الكفة الأكثر خفة وتأخذ الحقوق التي عجز أصحابها عن تحصيلها. فلا شيء يبقى على حاله، لا الضعفاء تدوم استكانتهم ولا الطغاة يدوم استبدادهم. وأنا كذلك، ما كان ليدوم خضوعي وخنوعي أمام حبي لك، حبي الذي كان من المفترض أن يكون نقطة قوة، جدارا نستند عليها سويا كلما تعثرنا في سيرنا نحو المستقبل الذي سيجمعنا معا، وحصن أمان يستقبل أرواحنا كلما قست علينا الحياة. ولأنك كنت أقسى من الحياة، كان لا بد أن يصبح حبي نقطة ضعفي، التي تفننت أنت في استغلالها. ولكني أعود لأقول لك، أن دوام الحال من المحال.

ففي كل مرة كنت أنتظرك فيها ولا تأتي، كنت أتوقف عن انتظارك. وفي كل مرة كنت أقترب منك خطوة، لتبتعد أنت عني ألف خطوة، كنت أتوقف عن التقدم نحوك. وفي كل مرة كنت أمد فيها كفي لتعانق كفك، فلا تُملؤ الفراغات ما بين أصابعي، كنت أخبئ يدي عنك، وأشبك كفيَّ معا في عناق أبدي لا مكان لكفك الباردة فيه. وفي كل مرة كنت أحتاج فيها منك حضن أمان، فأبحث عنك ولا أجدك وإن حدث ووجدتك، ترتخي يداك وتسقطان حولي، فيتفاقم إحساسي بالخوف والوحدة، كنت أكتفي بنفسي، فتمنحني الأمن والأمان اللذين ما فقدتهما إلا معك.

وهكذا، كنت قد اتخذت رغما عني طريق الغائبين، فسرت فيه بيقين وثقة وبخطوات ثابتة كأني لم أسلك يوما سبيلا غيره. ولأنك لست الحياة، أنا على يقين أنك ستبحث عني، ولكنك لن تجدني. فقد نلت غيابي عن جدارة واستحقاق. أنا التي أخبرتك يوما أننا لا نغادر الأماكن دفعة واحدة، بل نغادر تدريجيا، نتوقف عن الكلام، نتوقف عن الانتظار، نتوقف عن الحلم والأهم، أننا نتوقف عن محاولاتنا البائسة للتأقلم من أجل البقاء، هكذا حتى نختفي تماما. ولكنك لم تلق بالا لكلامي وقتذاك، وكان معك كل الحق، فمن ذا الذي سيكترث لكلام امرأة دائمة الحضور، امرأة متوقعة الأفعال، امرأة مأمونة الجانب، امرأة لم تتخذ يوما موقفا منه ولم تذقه ولو لمرة واحدة طعم الوجود بدونها. كيف أشرح لك الآن، أنه كان كلام امرأة عاشقة، أكبر مخاوفها أن تضطرها الظروف لتسقيك من نفس الكأس التي غصت بها مرارا ولتذيقك نفس العذاب الذي أذوى روحها، امرأة عاشقة تخشى على قلبك من الألم، بينما كثيرا ما سمعت هي صوت تحطم قلبها على يديك. ولتنجح أنت في الامتحان أعطتك جواب السؤال مسبقا، غش مباح، ولكنك اخترت الجواب الخاطئ، كأي رجل خدعوه فقالوا ألا رأي صائب في الحياة سوى رأيه هو. أنت حتى لم تلحظ غياباتي الصغيرة، حتى صفعك الغياب الأكبر على حين غرة.

وها أنت الآن في حضرة الغياب، وحيد كما تستحق أن تكون، تقنع نفسك أنني عائدة لا محالة، وأني حين أعود، ستتصرف كأنك لم تشعر بغيابي أصلا، وكأنك كنت أنت الغائب لا أنا، وستريني كيف أن غيابي حدثٌ لا يستحق حتى أن يذكر، ثم ستعود الحياة إلى ما كانت عليه قبل أن أفقد صوابي، وأحاول أن أتمرد! ولكنك يا صديقي، وكعادتك في تجاهل كل الأسرار التي كنت أفشيها على مسامعك عمدا، وكل الحيل التي حاولت تعليمك إياها، والتي كانت لتبقيني معك إلى الأزل لو أنك فقط أوليتها الشيء القليل من الاهتمام، أو لو كنت أوهمتني فقط أنك ستفعل، كنت قد نسيت أنني يوما ما أخبرتك أنني امرأة لا تستسلم بسهولة، لا تغادر عند أول عائق، ولا تتخلى حتى تستنزف كل طاقاتها من أجل البقاء، ولكنها متى ما رحلت، فإنها لا تعود أبدا، بل إنها لا تلتفت خلفها حتى وهي ذاهبة.

وها أنا أغادر، فلم يعد في القلب متسع لألم، لحنين أو لأمل. أغلقت أبوابي وأرخيت يدي التي كانت تقبض على يدك بقوة، وكنت أنت تفلت منها مرارا، وكلما فتحتها لا أجد فيها سوى آثار أظافري التي انغرست من فرط التمسك. هذه المرة، سأفلت يدك بكامل إرادتي، بعدما كنت سابقا أقلّم أظافري. لقد اكتشفت أخيرا، أن السماح بالرحيل أخفّ ألما.  يعزّي قلبي أني لم أدّخر مجهودا في سبيل الحفاظ عليك، وأني مشيت لك كل سبل الحب، ولا بوصلة في يدي، سوى شوقي الذي كان يوصلني إليك مهما تغيرت خارطة الطريق نحوك، ومهما استقبلتني دروب التيه.

اليوم، والبوصلة في يدي، أختار الطريق المعاكس، وأمضي فيه لوحدي وأتركك خلفي، في حضرة الغياب.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن سكينة هكّو

سكينة هكّو
كاتبة من المغرب، تحضر للدكتوراه تخصص جغرافيا. هوايتها الكتابة منذ الطفولة، تنشر في جرائد مغربية محلية وتحضر حاليا لمجموعتها القصصية الأولى.

شاهد أيضاً

رولا عبد الحميد تقول: إنها تجلس وحيدة في حضرة المحبوب

يقوم نص الرواية على حكاية حبَ بين حبيبين لا يلتقيان أبداَ، يدقَ قلبها، وتشعر بالاضطراب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *