توقيف، اعتقال، تغييب، سجن، بل وحتى اغتيال صحفي أو كاتب في ظل أنظمة حاكمة تعاني من هشاشة أركان وفرط حساسية مزمن لدرجة أن تجرحها وتهز أركانها كلمة حق من أحد محكوميها، يعتبر خبراً عادياً جداً في بلدان يعد مستوى وعي غالبية المسؤولين فيها هو الأدنى، وهذا ما تدلل عليه أفعالهم وممارساتهم وقراراتهم، رغم ذلك يحكم بعض هؤلاء قبضاتهم حتى على الأوكسجين، وبدل التقرب من المحكومين والرهان على محبتهم يقتصر رهانهم على إخافتهم وإرهابهم، وإن زعموا غير ذلك.
والطريف في الأمر أنَّ معظم هذه الأنظمة موقعة على “بروتوكولات” واتفاقيات عديدة حول “حقوق الإنسان” و”حرية الصحافة والرأي والتعبير”، وإلى ما هنالك من مصطلحات استهلاكية تعتبرها من لوازم تسويقها والترويج لها في الأروقة الغربية التي تحتكر بدورها إنتاج وتوريد مثل هذه المصطلحات، وتدثر بها هي الأخرى انتهاكاتها وجرائمها في غير مكان من هذا العالم، كما تتعامى عن أية انتهاكات إن هي صدرت عن أنظمة وظيفية تابعة لها، أو أخرى تربطها بها مصالح تعد بالنسبة لها أهم من أثخن صحفي أو مدون، بينما “تفوكس” عليها في المقابل في بلد ما، في وقت ما، في حال اقتضت مصالحها ذلك.
إنَّ يد “ملعون الحرسي” التي وقعت على تلك “البروتوكولات” والاتفاقيات والمعاهدات تماشياً مع غرب براغماتي، هي ذاتها التي أحدثت ووقعت على “قوانين” للجرائم الالكترونية، وقد تكون هذه القوانين هي أسرع قوانين تشرعها البلدان العربية على الإطلاق، بينما ما زالت قوانين كثيرة قيد الدراسة “حبيسة الأدراج” منذ عقود، وذلك لضمان الاستمرار بممارسة هوايتها بتكميم الأفواه وكسر الأقلام في الداخل ما أمكن وبالقانون، أولم يصدع رأسها المواطنون نخبهم وعوامهم بضرورة تطبيق القوانين واحترامها، فلماذا يغضبون إن أرادت مؤسسات الدولة تطبيق أحدها بالقبض على صحفي وزجه خلف القضبان لمدة عام بسبب “بوست” أو تغريدة كما حدث في الأردن منذ أيام، بالفعل إرضاء الشعب غاية لا تدرك.
لم يسبق لي أن زرت الأردن وغالباً لن أزورها، فالمرة الوحيدة التي دُعيت فيها إلى هناك من قبل جهة إعلامية اعتبارية لحضور ورشة عمل صحفية انتهت بتوقيفي في المطار لبضع ساعات ومن ثم إرجاعي من حيث أتيت بلا حقيبة، والتهمة كانت مزدوجة “صحفي وسوري”، ربما استشعر “الياهمالالي” الأردني – وهو يستشعر عادة – أني أشكل خطراً على أمن الأردن لا يمكن أن ترده كل القواعد الأمريكية والبريطانية والفرنسية المنتشرة على خارطة البلاد، لذا أرجعني من حيث أتيت.
كنت قد تعرفت في تلك المرحلة إلى كاتبين أردنيين استوقفاني، هما الراحل الجاد ناهض حتَّر الذي اغتيل غدراً وظلماً على مدرج قصر “العدل” بسبب مشاركته لكاريكاتير على الفيسبوك، والساخر أحمد حسن الزعبي الرازح خلف القضبان منذ أيام بسبب “بوست” كتبه العام الفائت حول رفع أسعار المحروقات، أُعجبت بعمق رؤية الأول وحزنت كثيراً لاغتياله، وأحببت سخرية الثاني اللاذعة اللاسعة ورشاقة أسلوبه، رغم أنه يعتبر كاتبا في الشأن الأردني المحلي إلا أن الحال من بعضه، فهم وإن علمونا في المدارس أن المشتركات الجامعة بين شعوب دول الوطن العربي هي اللغة والتاريخ والآمال..إلخ، لا يمكن لنا أن نُسقط أهم مشترك بينها وإن لم يخبرونا عنه، وهو همومها ومشكلاتها من “استبداد، وفساد وإفساد وبطالة وجهل وتجهيل وأمية…إلخ، وتطول القائمة.
(كم تحتاجون من دماء أبنائنا حتى ترتوون؟ لو بنزل الدم ما بنزل البترول، قد نزل الدم يا معالي الوزير، نحن الحطب في مدافئكم)، هذا ما كتبه الزعبي مما دفع الادعاء العام للتحرك على وجه السرعة، إذ استشعر خطراً و”يا غيرة الدين” فأمن الوطن والمواطن خط أحمر ولا يمكن أن يسمح لأحد أن يلعب فيه (بلا معنى)، كان قرار محكمة الصلح بحبس الزعبي شهرين، إلا أنَّ الحكم لم يشف غليل الادعاء العام ومن يقف خلفه ليتحرك ويطعن بالحكم، وتم قبول الطعن وتغليظ العقوبة فكانت السجن سنة مع الغرامة. بالمناسبة في سوريا التي سبق أن دعاها معظم جيرانها “الديمقراطيين” ومنهم الأردن غير مرة للتحلي بشيء من الديمقراطية وإطلاق الحريات ومنها حرية الرأي والتعبير يكتب كثيرون ويقولون أكثر من ذلك بكثير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكن يبدو أن القصة ليست قصة رمانة وإنما قصة قلوب مليانة على أحمد حسن الزعبي.
وردَّ أن تهمة الزعبي التي حوكم وأدين بها هي “التحريض على الكراهية”، مع أن المنطق يقول لو كان هناك شيء من عدل في هذا الكون لكانت هذه جريمة يجب أن يحاكم عليها المسؤولين قبل غيرهم، هل يختلف أثنان في عالمنا العربي على أن المسؤولين بممارساتهم وقراراتهم وفسادهم وتسلطهم هم سبب استمرارية كراهية الشعوب للحكومات والدولة ومؤسساتها؛ وشعورهم المزمن بأنها العدو الأول لهم، وهي وكل ما تملكه يمكن أن تُستباح من قبل المواطنين في أي لحظة ضعف أو وهن قد تصيبها، فقط لأنَّ هناك كراهية وحالة عداء متجذرة في النفوس وقد غذّتها حكومات متتالية، وبرلمانات متعاقبة، وأجهزة مخابرات، لا تجد صعوبة في المتابعة والوصول إلى أي “مفسبك” أو “متوّت” أو “مأكّس” أو “متكتك” أو “موتّس” لكنها في المقابل تتجاهل جيوش العاطلين من العمل، والفاسدين المفسدين والجائعين المتعفيفين..إلخ.
تحرك أردنيون وإن على نطاق محدود احتجاجاً على سجن صوت يمثلهم، وأصدرت بيانات ومناشدات ومطالبات بالإفراج عن الزعبي، إلا أنها لم تجد آذاناً صاغية، وإن كنت أرى أن صيغة ما ستكون كفيلة بإطلاق سراحه قريباً، إلا أن “ملعون الحرسي” الذي يقف خلف الإدعاء العام يريد أن تكون له بمثابة “فركة إذن”، هو لا يعرف سر القلم الحقيقي الذي أنَّى فركته وجدته كالذهب، وحتى إن عرف في قرارة نفسه فلابدَّ من منَّة؛ إذ يُسجن، فيطالب البعض بالإفراج عنه، ثم يُفرج عنه، فيهتف البعض “عاش الملك”.
هذي هي سيكولوجيا الذات الحاكمة، ذات النمرود الذي أدعى أنه يحيي ويميت، وحتماً في نفس كل واحد من أمثال هؤلاء شيئاً مما كان في نفس النمرود، رغم ذلك سننتظر بفارغ الصبر أن نرى أحمد حسن الزعبي، أو كما يوقع دائماً أ . ح . ز بيننا مجدداً.
مجلة قلم رصاص الثقافية