فائقة القنفالي |
وزّعت الكاتبة مديحة جمال مجموعتها القصصيّة على ثلاثة أجزاء يتضمّن كلّ جزء منها خمس قصص وهي: يا وجهي هل أشبهك؟ / يا وجهي كم أشبهك / وجوه عالقة.
والرابط بين الأجزاء الثلاثة هو كلمة الوجه. والتي حملت المجموعة عنوانها بالإضافة إلى كلمة الكارما والتي تحيل على معنى ارتداد القوة النّاتجة من تصرفات الفرد سواء كانت خيرا أو شرا عليه.
وبينما يحيل الوجه على معنى الظاهر والمكشوف والواضح تحيل الكارما على الخفي والباطن والجوهري وربما السرّي.
هذا التضاد بين لفظتي العنوان يضعنا أمام دهشة: الدهشة ذاتها التي تدفعنا إلى السّؤال. وربما بشكل ما سبقتنا الكاتبة لتسأل وهي تتعمد توجيهنا لسؤالها، السؤال ذاته الذي يؤرّق شخصيات قصصها ويؤرّق الإنسان في علاقته بالآخر: هل نشبه وجوهنا حقا؟ وهو السؤال الذي طرحته الكاتبة بصيغة المفرد ليبدو كــأنه سؤال ذاتيّ خاص وحميميّ ولكنّه سؤال كلّ ذات فكّرت ولو مرة واحدة في وجودها وفي علاقتها بالعالم وبالآخرين.
السّواد في الجزء الأول : يا وجهي هل أشبهك؟
لم تكن الكاتبة تقصد الوجه في معناه المتداول كعضو من الجسم بأنف وعيون وجلد وفم بل كانت تغوص بعيدا عن ذلك. وقد بدت أقرب للتمثل الفلسفي للوجه خاصة في فلسفة الفينمينولوجيا حيث يكون الوجه هو الناطق والمتحدث عن الباطن. وهاهنا أيضا لا يعبر الوجه في هذه المجموعة عن الشكل أو المظهر بل عن تأويل ضمني لما وراء الوجه وفي هذا الجزء الأوّل عن السّواد التي تتلون به الذات. فعنوان مثل “أحمر شفاه” يضعنا في ظاهره أمام صناعة الجمال أو ابرازه أو الاحتفاء به في حين أن الحكاية تحفر عميقا في نفسية امرأة تعاني الوحدة والقلق وتستعد لمغادرة الحياة الضيقة. امرأة يكون شريكها مشغولا بوضع صوره على “الفايسبوك” محتفيا بتعاليق الأصدقاء الافتراضيين والتّفاعل معها متناسيا وجود امرأته التي تعاني بين جدران البيت تتأرجح بين طريقين.
أمّا في القصة الموالية الموسومة بـ “السّاعة الخامسة” (قصة حول الابتزاز الالكتروني وتدميره لحيوات الناس) تضع الكاتبة وجه بطلتها مقابلا لوجه العالم والآخرين الذين يقرّون بأنّها قبيحة الفعل ومنبوذة فتردّ هي بأنّ القبيح وشديد السّواد هو العالم في صرختها التي تقطر بالألم “ما أقبح العالم!” وهو قبح فاجر لا نستطيع مواجهته بمفردنا فيصير الموت هو الملاذ الوحيد حين يصدّق الحبيب والقريب ما لا يصدّق.
أما في قصة “شطحة” في نفس الجزء فقد جعلت بياض الوجه بسب البرص يواجه سواد نظرة الآخر وبشاعة أحكامه على الجسد المختلف. هذه الأحكام التي تبدأ من الوجه المطلّ على العالم وتنتهي بانتهاء الوجه وغيابه الأبدي.
ولئن كان الوجه في تصور الفينمولوجيا ( ليفناس) يمكن أن يحمينا من القتل فإنّه هنا سبب للتّوجّه نحور الموت بينما في قصّتي “خبر عاجل” والخرافة ” فإن الوجه الذي نحمله وجه حمّال آمال ووعود وصلة ربط مع آخر صديق (المعلمة وزميلاتها و الطالبة المتخرجة والعاطلة عن العمل ووالدها ) في ظاهره إلاّ أنّه قناع يخفي وجع الذات وعدم قدرتها على المواجهة وإحساسها بالمهانة والعجز والاستسلام ( العنف الأسري والبطالة والهجرة غير الشرعيّة) وهو طريق آخر نحو الموت العنيف.
فالوجه هنا ليس ما ندركه من نظرة أو ملامح الشخص بل هو تجّل وحالة تكشّف تغوص في مناطق الروح الأكثر سوادا.
البياض في الجزء الثاني: يا وجهي…كم أشبهك!
هذا الجزء هو الذي تضمن قصة الوجه وهي نقيض الجزء الأول. ففي الوقت التي تكون نهاية القصص الخمس في الجزء الأول كلها الموت والانتحار كنهاية انهزامية وكأقصر الطرق لعدم المواجهة أو تغيير الوضعيات كانت شخصيات هذا الجزء قادرة على المواجهة، صلبة وشجاعة رغم الكذب والزيف
(قصة قصائد ظالمة) ورغم ضيق الأفق وسوداوية الواقع (قصة ماركيز ليس أفضل مني) ورغم خوف الإنسان من الموت (الليلة الأخيرة قبل نهاية العالم) ورغم ظلم السياسة وقهر البوليس في النظام المستبد وبشاعة تعامله مع النساء (قصة جانفي سطل ماء بارد) ورغم انعدام الحلول لامرأة تقرر أن تكون أُمَّا عزباء بعد أن تخلّى عنها الحبيب (قصة الوجه). في هذا الجزء يبرز التناقض الواضح بين الواقع القاتم وآمال الشخصيات التي تتشبّث بالإيمان في المستقبل رغم ما تعانيه من مرارة وسوداويّة.
ولقد لعبت الكاتبة على الوصف ومنحت مسافات حرّة لهذه الشخصيات للتكلم مع الآخرين أو مع ذاتها عمّا يعتمل في ذاتها وعن الصلابة التي يجب أن تواجه بها هذه القاتمة ودون ثرثرة كثيرة جعلت العلاقة محسومة لصالح الحياة. لقد جعلت من الأبيض في هذا الجزء سيدا لكل الألوان قادرا على امداد الوجه بقوّة الاشعاع وهو ما جعل من الذوات ذواتا مقاومة معجونة بالأمل.
الرماديّ في الجزء الثالث: وجوه عالقة.
عنوان هذا الجزء الأخير من المجموعة القصصيّة هو عنوان متماه مع روح القصص الخمسة الأخيرة
فالشخصيات هنا عالقة في المنتصف بين الشجاعة والجبن، الإخلاص والخيانة/ التذكر والنسيان/ الموت والحياة(الكارما)/ التحرر والخضوع/ الاستبداد والعدالة/ الزيف والحقيقة وبين ما هو كائن وما يجب أن يكون.
فقد تعلق ذاكرتك العاطفية ومن بعدها حياتك بأسرها في عطر ما (سمكة مشوية بطعم النبيذ الأبيض ) أو تعلق روحك بين عالمين (الكارما).
قد لا يبدو الخيط الناظم بين هذه الأجزاء واضحا في البداية وتلك لعبة السرد التي توهمك أنها مجموعة قصص منفصلة ولكنّ الوجه يجعلها مترابطة بحيث تكون أشبه بالمرآة التي نعبر منها للآخر ويعبر هو إلينا وهي تماما وظيفة الوجه الحقيقية. وبذلك تكون المجموعة متماهية مع عنوانها.
لم تشتغل مديحة جمال على تيمة الوجه كمبحث أساسي راكضة وراء الفكرة بل اشتغلت بشكل واع على طريقة الكتابة ملتزمة بأسس كتابة القصة وإن ركّزت على خلق نهايات مفاجئة لسير الخط الدرامي أو على الأقل تخيّرت واحدة من نهايات ممكنة حتى تدفع القارئ إلى مشاركتها في وضع إمكانات أخرى للنهاية. بالإضافة إلى لغة متناسبة مع موضوع الحكي وطبيعته مما يجعل النص منساب وهادئ دون تكلف أو تصنع أو تعال على القارئ لذلك فهي مجموعة قصصية للجميع ولأمزجة مختلفة ولتأويلات كثيرة ممكنة. قصص مكثّفة المعاني والدّلالات ومتدفّقة في اتجاهات متعددة لا تفرض علينا فهما أو تقبلا معينا أو ايديولوجيا محددة تدفعنا فقط لمواجهة ذواتنا والتحدث مع وجوهنا المتعددة وتقبّل وجوه الآخر أو رفضها. تضعنا أمام الحلم والواقع، الوهم والاستسلام، والتقبل، والخضوع والتمرّد دون أن تعطينا خارطة طريقة واضحة فقط تكتفي الكاتبة بتقديم مفتاح وهو الوجه.
إنّ هذه المجموعة ليست إلا وجها آخر لكل إنسان يبحث عن معني أن يكون إنسانا.
مجلة قلم رصاص الثقافية