الرئيسية » رصاص خشن » حنا عبود .. بيت الكون الأمين

حنا عبود .. بيت الكون الأمين

لا يهم هذه الشهادة العرفانية الانتماء إلى فضاء المتنبي وممدوحيه، كما أنها ليست كافية من جهة أخرى  لتحقيق مطلبٍ شامخٍ في شموخ المحتفى به، مَنْ رأسه في السماء وظلّه في الكتاب. هي محاولة متواضعة لتبني الخطاب العقلاني معيدةً شكلاً من أشكل الحوار  مع حنا عبود المُعلّم الفكري والأدبي والأب الروحي لعائلة كبيرة من المبدعين سكان حمص وسوريا.

إن عدد مؤلفات حنا عبود هو ستة وثلاثون مؤلفاً، وعدد مترجماتِه هو ثمانية وخمسون كتاباً. مجموع ذلك هو أربعة وتسعون كتاباً منشوراً. ويمكن للشجاعة والمحبة النطق بلسان الرياضيات والقول إن هناك على الأقل أربعة وتسعون مبدعاً أدبياً يدينون بالفضل لحنا عبود وللجلسات المشتركة في بيته في الحميدية.

وفي حدسية أخرى فهذا العدد قد يتضاعف مرات، إذا قصدنا بالفضل تلك التأثراتِ الثقافية العامة المخفية  والتي تتجلى في خلفية  الإبداع  وتتفاعل وتشكل عوالمها دون دراية صاحب الإبداع  الفعلية.

قصدي الأول هو أن هناك على الأقل أربعة وتسعون كاتباً، قاصاً أو شاعراً أو روائياً أو مسرحياً، كان لحنا عبود الفضل الأول في إخراج أحد أعمالهم الأدبية إلى الضوء.

ولهذا الفضل وجهان: الأول هو المثاقفة الجميلة التي كانت تشع في الجلسات المنزلية مع حنا عبود، وإدارته العبقرية لمواضيع النقاش بفضل  مهارته النقدية وقدرتها على استكشاف عوالم الكاتب الزائر، فكان يثير نقاط الحوار التي تهم الضيف الكاتب، ويحرّض فيه رغبة الإبداع.

والوجه الثاني هو اقتراحات تحريرية وتعديلات متعلقة بنصوص إبداعية تُعرض عليه.

يمكن بالطبع سرد أسماء إبداعية متنوعة عديدة، أصدقاء ومعارف أدباء استفادوا من حرفية حنا عبود النقدية وقدموا أعمالاً متميزة ما تزال علامة فارقة في تاريخ تجربتهم الأدبية.
تأتي في مقام المثال الأول المكتمل قصيدة “النزف في طاحونة المدينة” للشاعر عبد النبي التلاوي.
تعتبر هذه القصيدة علامة فارقة في منجز الشاعر التلاوي، وقد كتبها بعد عدة لقاءات وحوارات مع حنا عبود، حين كنا نزور عوالمه الرحبة  في منزله، ونستمع إلى مُعلّم فلسفة معاصر، وهو يحدثنا عن  فصول كتابه” النحل البري والعسل المر”. لقد شبّه حنا عبود في كتابه الشعراء القادمين من الريف الذين استوطنوا المدينة (القفير الصناعي) بالنحل البري، والعسلُ المرُّ هو أشعارهم ذات الرؤى السوداء. فكتب التلاوي قصيدة النزف في طاحونة المدينة  المتماهية مع رؤى  الكتاب، بعد أن اختمرت في أعماقه خلال زيارات عديدة.

في هذه القصيدة الجميلة يقدم الشاعر التلاوي هجاءً عظيماً لمدينة حمص بكليّتها ويعتبرها مسؤولة عن ضياعه الروحي وافتقاده إلى الأمان والسكينة. وفي مقابل ذلك يقدّم صورة في غاية الرومانسية عن قرية منشودة.

وربما يجدر بي الآن  التأكيد أنني تلقيتُ من حنا عبود آفاق العلاقة بين “الشاعر والمدينة” بشكل مختلف عما تلقاه الشاعر التلاوي. لقد شكلت فيّ الحوارات العبوديّة  عوالم  مدينة حقيقية  تدعى حمص، فكتبت في تلك الفترة قصيدة “حمص السادسة مساء”. وهي قصيدة ذات مرجعية واقعية وذات طموح أسطوري. ظهرت فيها أمكنة المدينة، وعلاقتي الملتبسة بها. ونحوت بذلك  عكس اتجاه الشاعر التلاوي والذي قدم مرجعية ذهنية مثالية عن حمصه. ندين كلانا بالفضل إلى تلك الفترة الذهبية في علاقتنا مع الفتوة والحياة والشعر، وحنا عبود، في كفَّة معادلَةٍ لجميع ذلك.

في زيارات أخرى، حدثنا حنا  عن الميثيولوجيا العالمية، وهو كان موضوع شغفي في تلك الفترة، خاصة وأنني بدأت بتشكيل نواة لمشروع شعري أقترح فيه قدرة المرأة على تغيير العالم جمالياً، فوجدت في أحاديث حنا عبود عن الآلهات القديمات، ما يناسب تلك الرؤى، فكتبت حينها العديد من القصائد التي يمكن تلخصيها بعنوان كتاب مترجم لحنا هو “يوم كان الرب أنثى” لمارلين ستون. وما تزال قصيدتي “حديث السيدة التي كانت الهة” من قصائدي المفضلة حتى اللحظة، وهي قصيدة انتماؤها الحقيقي هو مأدُبة حنا عبود الميثيولوجية.

لقد خرجتُ من “معطف حنا عبود”، خرجت من عديد  كتبه أيضاً:

النحل البري والعسل المر- القصيدة والجسد- فصول في علم الاقتصاد الادبي- الميثيولوجيا- الخيال الأدبي-موسوعة الاساطير- الأسلوب اليوناني – الأسلوب الروماني.

شاركني الشاعر محمود نقشو هذه الاحتفالية الجميلة بالميثيولوجيا النسوية وخصوصية المرأة صاحبة السيادة والحكمة والسلطة وقدرتها على تشكيل العالم وفق مفاهيم الأنوثة والخصب . وقد ذكر الصديق  الشاعر نقشو أنه كتب قصيدة “مناهل”  الموجودة في مجموعة “فقه الليل”  في أجواء تلك الجلسات  الجميلة في منزل حنا عبود.
قصيدة مناهل هي قصيدة احتفاء بالأنثى العظيمة، وقصيدة رهان جمالي ووجودي على تجلياتها في الواقع ، وقدرتها المتجددة على صناعة الأحلام، للإنسان عامة وللشاعر بشكل خاص.

الوجه الثاني لتأثير حنا عبود في أعمال الأدباء هو التدخل المباشر. فهو يمتلك حساسية شعرية مذهلة، ولديه براعة في النقد التطبيقي ، وطالما حدثني الشاعر الراحل وليد المصري عن ملاحظات واقتراحات كان يقدمها حنا له في كل زيارة. حيث حرص الشاعر الراحل على أن يكون حنا أول من يسمع  القصيدة الجديدة المكتوبة.

وأشير هنا أيضاً إلى ما ذكرته القاصة وفاء خرما، وكيف اقترح حنا عليها في إحدى المرات( قفلة) مختلفة لقصتها “تلك البصمات” في مجموعتها “الأجنحة المتكسرة ل س و ع”.
وتذكر القاصة حواراً غنياً ممتعاً دار بينهما حول هذا التعديل، لماذا نرفضه ولماذا نقبله؟
وتشير إلى موقف نقدي مهم لحنا عبود حين سألها باحتجاج: هل تعتقدين حقاً أنك تكتبين من نفسك؟ من منا يكتب مما عنده؟ الآخرون كلهم في داخلك وأنت منهم تغرفين.

تحيل الملاحظة السابقة إلى ضرورة قبول ملاحظات النقاد والكتاب الآخرين، وإلى أن النصوص الأدبية ليست مستقلة أو منفصلة بل  هي جزء من شبكة معقدة من العلاقات بين النصوص. وتحيل تلك الملاحظة النقدية القصيرة إلى جملة مفاهيم نقدية معاصرة ما تزال متداولة. منها مفهوم التناص، حيث يستدعي كل نص النصوص السابقة ويتأثر بها. بمعنى أن كل نص جديد يحتوي على آثار وأصداء من نصوص أخرى سبقته. ومنها مفهوم التأثير والتأثر ، فكل نص جديد يحمل بصمات النصوص السابقة.

كما أن النصوص الجديدة تؤثر بدورها في النصوص التي ستأتي بعدها، إذ يستلهم الكتاب اللاحقون الأفكار والأساليب من النصوص الحالية، ويقومون بتطويرها، وهذا ما يؤدي إلى تطور الأدب بشكل مستمر.

غير أن التجربة المهمة التي أحب الإشارة إليها أخيراً، هي مجموعة الشاعر الراحل خالد محي الدين البرادعي ” عبد الله والعالم” والتي حازت على جائزة البابطين في الدورة الرابعة 1994.

لقد حرر حنا المجموعة الشعرية وفق مفهوم التحرير الأدبي  الشائع في الغرب. أي قام بعملية مراجعة وتنقيح للنصوص لتحسين جودتها، وضمان أن يكون النص متماسكاً مفهوماً. وتضمن ذلك تحرير المحتوى وتحرير الأسلوب.

إن عملية التحرير الأدبي تتطلب مهارات نقدية وتحليلية عالية، بالإضافة إلى حساسية أدبية تُمكن المحرر من تحسين النص مع الحفاظ على صوت الكاتب وأسلوبه الفريد. يعمل المحرر الأدبي بالتعاون الوثيق مع الكاتب، حيث يُقدِّم اقتراحات وتوجيهات تهدف إلى تعزيز جودة العمل الأدبي وإعداده للنشر بطريقة تلبي توقعات الجمهور والناشرين. وتجدر الإشارة إلى غياب  مهنة المحرر الادبي في الثقافة العربية بشكل حاسم. لا يتسع المجال لذكر أسباب ذلك، لكن من الضروري الآن  بعد عقود من حدوث ذلك، أن نأتي متأخرين، ونشكر المبدعين المهمين الشاعر البرادعي والناقد عبود على شجاعتهما وريادتهما.

لقد عاصرت مع بضع أصدقاء عملية التحرير الفريدة التي قام بها حنا عبود. لم نكن شهداء بالحضور الفيزيائي، لكن حنا  السارد البارع وضعنا في عين عملية التحرير الأدبي، فرأينا ولمسنا حالة الشغف التي كانت تسكن البرادعي، وهو في الحالتين الإبداعيتين الفريدتين، الكتابة وإعادة التحرير. لقد ناقش  النصوص عبر الهاتف مع المعلم الماهر والصديق المحب، وأسرع أكثر مرة إلى الحضور من يبرود إلى حمص للقاء حنا عبود والاستفادة من ملاحظاته.

إن ديوان عبد الله العالم يمثل عرضا خيالياً بديعاً وصياغة شعرية قديرة لأزمة الإنسان العربي الحديث على كافة المستويات النفسية والوجودية والسياسية.

إنه ديوان يهجو زمن الطغاة والسلاطين، هو يهجو أيضاً بذلك الاقتصاد السياسي. وهذه إحدى صور الاقتصاد الأدبي، النظرية التي أطلقها الناقد عبود ضد جميع ما يسعى للاستيلاء على العالم مادياً. إن بصمات حنا عبود الفعلية والروحية موجودة في كل صفحة من تلك المجموعة الفريدة.

وهي سوف تبقى أيضاً في أعمال العديد من معاصريه وقرائه وزواره  فالأدب ذو طبيعة  ديناميكية، حيث تكون النصوص التي نقرأها أو ننتجها  في حالة حوار مستمر مع بعضها البعض. فكيف إذا قيض لنا ناقد موسوعي مهتم بالعلم  والميثيولوجيا والفلسفة  والأدب والفكر معاً!
إنها علامة فارقة سعيدة في حياتنا دون شك.

عن د. حسان الجودي

د. حسان الجودي
شاعر وكاتب سوري، حاصل على إجازة في الهندسة المدنية من جامعة دمشق, ودكتوراه في الهندسة المدنية من جامعات بولونيا. عمل مدرساً في قسم الهندسة المائية، بكلية الهندسة المدنية - جامعة البعث. حاصل على جائزة سعاد الصباح للإبداع الشعري عام 1994 عن مجموعته مرايا الغدير.

شاهد أيضاً

وحشية

١ ثمة ملاك، أو هذا ما نظنه لأنه يرتدي لباساً أبيض، ينشر حوله هالة نورانية، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *