ثمة فرق بين الاحترام، واللباقة، واللطافة، والتبجيل، والمجاملة، والغزل، والنفاق. هذه المفاهيم جميعها موجهة للآخر، سواء كان الآخر فردا أو جماعة، غائبا أو حاضرا. وجميعها يعامل الآخر، أو يتحدث معه، أو عنه بطريقة حلوة. ولكل من تلك المفاهيم مكانه الصحيح في العلاقات الاجتماعية، إلاّ النفاق. لأن النفاق هو الذل المغلف بالكذب. والذل والتذلل رغم وجودهما في خانة المفاهيم السيئة، إلا أنهما الأكثر شيوعا وتداولا في العلاقات الاجتماعية العربية!!
وقد كشفت لنا مواقع التواصل الاجتماعي حجم النفاق الموجود بين ظهرانينا، وتمكنه من سلوكنا، وتجذره في نفوسنا. ولم يعد الباحث يحتاج إلى بيانات، وتقصي، وعينات واقعية ليكتب عنّا بحثا. فقط يحتاج إلى حساب على الفيس بوك، وبجلسة واحدة سيصل إلى النتائج. ولنأخذ “الترحم” على الأموات مثلا. أعرف أمواتا لا يستحقون هذه الكلمة “الله يرحمو”، وقسم كبير من الذين يترحمون عليهم يعرفون ذلك، إلا أن معرفتهم لم تمنعهم من أن يترحموا عليهم، بذريعة أن الميت لا تجوز عليه إلا الرحمة، وهي مقولة غير صحيحة. الحقيقة هم يريدون الاسهام في ذلك النفاق الاجتماعي، والحفاظ عليه، ولو على حساب قناعاتهم ومعرفتهم!! هي الصورة المثالية لضياع الفرد في الجماعة.
من هنا يمكننا القول أن لا قيمة للمعرفة ما لم تتحول إلى سلوك. والسؤال ما هو الدافع الحقيقي الذي يجعل الإنسان يتجاوز ما يعرفه، ويذهب إلى القطيع بكامل إرادته؟!
أعتقد أن العرب مثلهم مثل كل الشعوب الأخرى كانوا جماعات، انتظمت تحت راية القبيلة، مع التقدم في الزمن، والتطور، تلك الجماعات خضعت لنوع جديد من التنظيم، تطور لاحقا وأصبح دولة. وهذه الدولة تطورت قوانينها، وأنظمتها، وتحددت مهام مفهوم “الدولة” بتعريف مونتسكيو: مهمة الدولة هي الرعاية والحماية. فضعف انتماء الفرد للجماعة، وانحاز في انتمائه للدولة، وقوانينها الناظمة للعيش والعمل.
إلا العرب، فإنهم مع الأسف إلى الآن ما زالوا خارج سياق الدولة!! هذا من جهة، من جهة ثانية على ما يبدو أن ما تعلموه في المدارس، وما قرؤوه في الكتب، لم يتمثلونه، يكتبونه، يتحدثون به، ويملؤون به مجالسهم للتشاوف، أو لتزجية الوقت!! وبقيت الجماعة هي محط أنظارهم، كمصدر قوة أيّا كان مستوى الجماعة!! وبهذا يؤيدهم جورج كارلين بقوله: “لا تقلل أبدًا من قوة الأشخاص الأغبياء في مجموعة كبيرة.”. وهذه القوة تتبدى في شراسة دفاعهم عن النفاق الاجتماعي الذي يعيشونه، يمكنك ملاحظة ذلك حين يتعرض سلوك أولئك الأفراد للنقد.
لذلك لم يستطع المؤمنون بالأهداف السامية للمعرفة، والمهتمون بالشأن العام، أن يتركوا أثرا واضحا في المجتمع العربي. وقد مرّت المجتمعات الأخرى بهذا الطور من التخلف، وتجاوزته منذ زمن بعيد، لأن صوت النخب كان مسموعا. تقول “هانا آرندت 1906 – 1975”: “إن هذا الكذب المستمر لا يهدف إلى جعل الناس يصدقون كذبة، بل إلى ضمان عدم تصديق أي شخص لأي شيء بعد الآن. إن الشعب الذي لم يعد قادرًا على التمييز بين الحقيقة والكذب لا يستطيع التمييز بين الصواب والخطأ. ومثل هذا الشعب، المحروم من القدرة على التفكير والحكم، يخضع تمامًا لحكم الكذب دون علم أو إرادة. ومع مثل هذا الشعب، يمكنك أن تفعل ما تريد.”
مجلة قلم رصاص الثقافية