آخر المقالات
الرئيسية » ممحاة » مع إيميل سيوران

مع إيميل سيوران

قيمة الكتاب بالنسبة لي كقارئ مرتبطة بقدرته على إثارة الأسئلة، وأهم الأسئلة هي تلك التي تسقط وجوهنا التي نحتمي بها، وتذهب إلى أبعد من تلك الأقنعة.

يقول إيميل سيوران في كتابه: “المياه كلها بلون الغرق”، (أن يكون للمسائل حلول أم لا فهذا لا يزعج إلا القلة، أما أن لا يكون للأحاسيس منفذ، وأن لا تُفضي إلى شيء، وأن تُضّيع نفسها، فهذه المأساة التي تسكن لا وعي الجميع، هذا هو “الإشكال العاطفي غير القابل للحل” الذي يعاني منه الجميع دون انتباه).

وبسبب هذه المأساة التي تسكن الجميع، سواء شعروا بها، أو لم يشعروا، ترى الناس ترتدي وجوها لا تشبه دواخلها. ولذلك ترى الغالبية يذهبون إلى قناع الذئب، هربا من الحمل الذي في داخلهم، ولذلك أيضا ما زال الكثير منّا يتغنى بمعلقة عمرو بن كلثوم، ويستشهدون بأبيات منها كلما دب الحماس في عروقهم!! علما أن صوت ذلك الذئب سيخفت في النهاية، ويعود كلّ منّا إلى الحمل الذي في داخله، إلا أنه سيكون حملا مشوها بتاريخه الذئبي. وكأنه يستبدل وجعا بوجع آخر، وكلاهما من صنع يديه!!

في نهاية إحدى محاضراتي التربوية، اقترب مني شاب في الثلاثينات من العمر، وسيما، أنيقا، وسألني بصوت خفيض عن حلول لبعض مشاكل الأطفال. سألته عن عدد أطفاله، وأعمارهم، وطبيعة علاقته بهم، وهل يلجأ إلى ضربهم أو الصراخ عليهم حين يخطئون؟
فقال: أنا بحياتي ما ضربت حدا، ولا صيّحت على حدا، وابتسم، واستكمل حديثه: لذلك أنا ما بعرف أضرب، ولا أعرف أصرخ. فسألته: حين تغضب، ماذا تفعل؟ فقال: أسكت، وأنظر إليهم -يقصد أطفاله-وأبتسم. قبل هذا الرجل، وبعده، لم يسبق لي أن التقيت بأحد متصالح مع الحمل الذي في داخله!!

يذهب معنى عنوان كتاب إيميل سيوران ” المياه كلها بلون الغرق”، إلى أن فعاليات الإنسان هي نوع من التحايل على الحياة التي تتظاهر بالمعنى، والحال أن لا معنى لها على الإطلاق، إذ أن معنى الحياة لا يمكن الوصول إليه في ظل الإشكال العاطفي الذي يعاني منه الجميع. فالإنسان لا يرتفع في التطاول على الآخرين، أو سلب حقوقهم، أو على جثثهم، الارتفاع لا يكون إلا بالحب، وطاقة الحب موجودة في داخل كل إنسان، ولكن –مع الأسف-قلة من يستثمرها حق الاستثمار.

علماً أن حبًا يخيب هو محنة فلسفية تملك من الثراء ما يتيح لها آن تخلق من حلاق نظيرًا لسقراط”، وهذا ما يميز خيبة الحب عن باقي الخيبات. لست أدري إن كنت قد أصبحت نظيرا لسقراط، أم أنني ما زلت بحاجة خيبات أخرى؟ّ

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن إبراهيم الزيدي

إبراهيم الزيدي
شاعر وكاتب سوري، عضو اتحاد الكتاب العرب، كتب ونشر في العديد من الصحف والمواقع والمجلات السورية والعربية، صدر له في الشعر: كلمات بلون الحب ـ ثم ليلى، ورواية «حب تحت الأنقاض».

شاهد أيضاً

مع ستيفان زفايج

يبدو لي أن الكاتب النمساوي ستيفان زفايج هو الأكثر اهتماما بمتابعة خيبات الحب، وأثرها في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *