١
ثمة ملاك، أو هذا ما نظنه لأنه يرتدي لباساً أبيض، ينشر حوله هالة نورانية، تُحيطه لفافات من الأوراق، بيده واحدة، يقرأ منها، اللفافة طويلة طويلة، لا نرى نهايتها..
جمهور بلا ملامح، أشباه بشر، يصفقون لكلماته الزرقاء.. في البعيد وراء الملاك، سياج حديدي أسود، وبوابة ضخمة يحرسها ملاكان بسيوف ملتهبة، خلف السياج مدينة تحترق، يهرب منها بشر، رجال، نساء، أطفال، ثيابهم رثة، عيونهم تقطر بؤساً، تنقض عليهم عقبان بعيون مطفأة، صرخات استغاثاتهم عالية، لكن للأسف لا أحد يسمعها، فما نراه مجرد ألوان وخطوط داخل اللوحة..!
٢
ثمة فارس، أو هذا ما نظنه لأنه يمتطي فرساً، لم يكن يحمل سلاحاً، مطيته عجفاء، عظامها بارزة، ليس دونكيشوت، إلا إن كان متنكراً بزيٍ عربي.. مُرافق الفارس يشير بيده إلى أقصى الزاوية في اللوحة، نتابعها إلى مدينة تحترق، وجثث تفترش الركام، بينما سيل دماء يجري لا نرى نهايته كذلك، لأنه يصطدم بالإطار.. حركات المرافق تبدو كأنها تحثّ الفارس على الإسراع، تستعجله كي يغادر متاهة كثبان الرمال، حركات الفارس لا توحي بأنه على عجلةٍ من أمره، ربما يتريث حتى تخمد النار، كي لا تحرق باقة الورود التي ذبلت وجفت في يده، ذاك أن الموتى لن يأبهوا لحال الورد على قبورهم..!
٣
ثمة جيش عرمرم، يقف على مشارف المدينة المحترقة، وراء الجيش أطلال مدن مدمرة، وجثث تتراصف واحدة جانب الأخرى، وتغادر الإطار.. على رأس الجيش فارس أسود، نظنه جنكيز خان، وهذا حق إلا إن كان شخصاً آخر يتنكر بهيئته، وجهه محتقن بالغيظ، هذا يفسّر مطيته المنحورة بسيفه، رمحه المكسور على الأرض، وإشارة تقهقره مع جيشه.. ربما لم يصدّق أن هناك من سبقه إلى تدمير المدينة، أو ببساطة لم يصدّق أن ثمّة أحد يفوقه وحشيةً..!
مجلة قلم رصاص الثقافية
قراءة في نص الأديب فراس الحسين ( وحشية)
مقدمة :
مقاربة موضوعية للمأساة الإنسانية
نظراً للحمولة الواقعية التي تميل إلى الحزن أكثر من ميلها إلى الفرح ، ينزح الإنسان أو يميل في أوقات الشدّة والمأساة إلى الضحك أو السخرية مُداراةً لمأساته ، كي لا يتلف نفسياً ويسقط في براثن الحزن المدمر كالفقدان أو حرب حارقة ، وقد يدفع الإنسان إلى البحث عن حيَل يداري بها وحشة وقسوة الواقع الذي يعيشه ، فقد تميل أمة من الأمم إلى مداراة الحزن الكبير بثقافة النكته والتسرية عن النفس كما قد يميل بعض الأشخاص إلى هكذا منافذ كي يخرجوا من حالة الحزن الأليم ، لكن في العموم يبقى هذا النمط من مقاربة المأساة الأقل حضوراً ، فالحضور الطاغي هو الإغراق في الألم نظراً للطابع الصارم والجدّي الذي انطبع عليه الإنسان لحظة تفتق الألم إلى سياقاته الواقعية. لكننا لا نعدم مثل هذا النمط على الإطلاق.
فتصرفات الدون كيشوت من الرواية التي حملت اسمه كانت تصرفات ملهاتية على أحداث مؤلمة ، فأن يخوض الدون كيشوت حرباً ضروساً على أساس أنهم غزاة فذلك مشهد يسعى إلى مقاربة المأساة في الضحك والسخرية كذلك أمكن الحديث هَهنا عن سعيٍ إلى خلق بديل نفسي سيكلوجي عن الفظاعة التي يعيشها على ارض الواقع وإلى مقاربة أخرى على فكرة تجميل القبيح أو إجراء تعديل جوهري على نمط الحياة الواقعية ، وإضفاء نوع من اللذاذة الأدبية على قباحة الفعل الواقعي بما يجعل من النص الأدبي بديلاً عن الواقع المعاش، وذلك بإدخال القارئ في زمنٍ موازٍ ينتقل فيه من مرحلة الكابوس الحياتي الذي يمثل عالم الشهادة والغيب بالنسبة للحدث المأساوي إلى مرحلة تفريغ حمولة هذا الكابوس والتحايل على زمنه الحقيقي بزمن لحظة قراءة تفاصيل هذا الكابوس، بما يعني أن الأدب يتدخل لكي يُحدث تعديلاً على العالم الذي يعيش فيه ويحتج على صيغته الفاعلة فيدفعه هذا إلى إنجاز عالم بديل يعمل فيه على تهذيب الواقع وفقاً لرؤيته، وبما أننا بإزاء الحديث عن اللذه الوحشية الواقعية والعمل على تعبئته بالملح المحتّم اللذيذ .
إن الجمال الوحشي إن جاز التعبير أو جعل القبيح جميلاً هو أحد الإستبصارات الأدبية العميقة لموضوعية الألم البشري واجتراح كبير على مسيرة التطور الجمالي المعرفي الإنساني لا سيما ما تواضع منه على هيئة نصٍ أدبي، فالتطور الحاصل في بنية النص الأدبي الذي يُقارب وحشية إنسانية على أرض الواقع ويعمل على ترميزها في نصٍ ما سيضفي جمالاً على هذه السيرورة المُرعبة لكي لا يهلك مرتين مرة على أرض الواقع ومرة في النص الأدبي ، ويعمل على تلطيف أجواء المحرقة الواقعية ليضفي عليها طابعاً لذيذاً.
بيد أن لنص ( وحشية) في هذا المقام غاشمة في متاهة المأساة الأوديبية حتى ساعة يعمل أوديب على فقء عينيه كتكفير عن خطيئة زواجه بأمه وقتله لأبيه ، فنحن ننتظر تطوّر الأحداث بشغف كبير من اللحظة الأولى للقراءة وصولاً إلى لحظة التشوق الكبير لأوديب وهو يفقئ عينيه في مشهد ميلودرامي لا يستدر دموعنا فحسب كتجلّي للمأساة بل تعمل على استدرار شغفها بهذا العقاب المروّع ، فنحن سعداء بقدرة الأديب على تعطيل مسارات حياتنا الواقعية وزمنها الضاغط ونقلنا إلى زمنٍ موازٍ لا نعاين فيه المأساة بصفتها جزءً من أحداث كثيرة نلف حولها بل بصفتها ( الكل ) الذي تدور حوله الأحداث وتدفق سيّالة في الزمن الداخلي في النص الأدبي بما يعزلنا عمّا سواه ، لذا يصبح التموضع في زمن المأساة المُتجلّي في النص عملاً لذّيّاً بالنسبة للكاتب والقارئ معاً ، حتى وإن حدث في هذا الزمان فضاعات مؤلمة وحزينة لأبطال هذ النص الساحر للأديب فراس ولربما أمكن كهَذا إعتبار فعل القراءة أحد الإستبصارات في هذا العالم الموحش لما ينطوي عليه هذا الفعل من إمكان تجاوزي للزمن الواقعي وقدرة القارئ على النظر إلى العالم برؤية مغايرة لما هو عليه أساساً وهذه المرة بإبداع إنساني خالص.
الحق أننا حقيقةً لا مزايدة ولا مجاملة أمام نصٍ يكاد يوازي مشهد من مشاهد ( هاملت) و(دونكيشوت) في عمق استمراء أطياف عالم الغيب والشهادة بما اعتمر من مشاهد فاقت في جودتها الأدبية ما لم أتوقعه من الأديب فراس ولكنه حقاً فاجأني بهذا النص العتيد والذي نسيت أشباهه وأنا قيد دراستي للأدب العالمي وأعرف أنه سيتفاجئ بتحليلي هذا رغم ما بيننا من قُرب.
بقلمي خليل شواقفة_ عمان / الأردن
شكراً للأستاذ خليل شواقفه
والشكر موصول للمجلة وهيئة التحرير